-->

نظرية الظروف الاستثنائية: اساسها وبداية نشأتها (2)




المبحث الأول

مفهوم نظرية الظروف الاستثنائية


           قد تتعرض حياة الدولة للأخطار والأزمات التي تهدد وجودها وكيانها وان السلطة التنفيذية في ضوء هذه الظروف بحاجة إلى صلاحيات جديدة للقيام بواجبها في الحفاظ على كيان الدولة ووجودها وان تعارض هذه المصالح مصلحة احترام القانون ومصلحة الحفاظ على الدولة  وللموازنة بين هذه المصالح فقد ابتدع الفكر القانوني هذه نظرية الظروف الاستثنائية وسنحاول في هذه المبحث التعرف على مفهوم هذه النظرية وذلك في المطلبين الآتيين :ـ

المطلب الأول

 أساس نظرية الظروف الاستثنائية وبداية نشأتها

           الرأي السائد في الفقه يتجه إلى إن فكرة الضرورة هي أساس نظرية الظروف الاستثنائية ويقصد بالضرورة تلك الحالة من الخطر الجسيم الحال التي يتعذر تداركها بالوسائل العادية مما يدفع السلطات القائمة على حالة الضرورة أن تلجأ إلى  الوسائل القانونية الاستثنائية لدفع هذا الخطر ولمواجهة الأزمات(6) وفكرة الضرورة هذه تقوم على ركنين(7) ركن موضوعي ويتمثل بوجود خطر يهدد مصلحة جوهرية معتبرة قانونا وركن شكلي يتمثل في التجاوز على أحكام القانون هذه هي فكرة الضرورة بصورة عامة، وهناك من يرى تحديد حالة الضرورة في نطاق القانون الدستوري ذلك أنها توجد  كلما كانت الدولة في وضع لا تستطيع معه أن تواجه  أخطاراً معينة سواء كان مصدر هذه  الأخطار داخلياً أم خارجياً إلا بالتضحية بالاعتبارات الدستورية التي لا يمكن تجاوزها في الأوضاع العادية (8). وبالتالي فان نظرية الضرورة تعني إضفاء المشروعية على عمل هو في الظروف العادية غير مشروع.
              وتعد هذه النظرية من النظريات العامة في القانون التي لا يقتصر مجالها على القانون الدستوري وإنما يتعداه إلى مجالات القانون الأخرى ويحق القول هنا أنها من النظريات الهامة في مجال القانون العام حيث إنها تمثل الجانب الاستثنائي لمبدأ المشروعية وقد اهتم الفقه والقضاء ولاسيما القضاء الإداري الذي حددها وذلك بوضع الشروط والضوابط اللازمة لتطبيقها. وبالنظر لحداثة هذه النظرية واختلاطها مع غيرها من النظريات التي تحكم عمل الإدارة اختلف الفقه في تحديد أساس واحد لهذه النظرية (9).
            وترجع الأصول الأولى لنظرية الظروف الاستثنائية في القانون العام إلى الفقه الألماني الذي اتخذ منذ البداية النظرية القانونية لهذه النظرية والتي تجد أساسها في كتابات بعض الفقهاء الألمان منهم هيكل وهرنك وجلينك، فقد برر هيكل خروج  الدولة على القانون في هذه الحالة إن الدولة هي التي أوجدت القانون وهي تخضع له لتحقيق مصالحها وعلى ذلك فلا خضوع عليها إذا كانت تحقيق صالحها هو في عدم الخضوع إلى القانون الذي يعد وسيلة لغاية هي حماية الجماعة فإذا لم تؤدي هذه القواعد إلى هذه الغاية فلا يجب الخضوع إلى القانون وعلى الدولة أن تضحي به في سبيل الجماعة (10)
           وكان الفقيه جلينك قد برر النظرية التي تحل بها الحكومة محل السلطة التشريعية تحت ضغط الحوادث لمواجهة الضرورة وبكل الوسائل المتاحة وعلى ضوء هذه الآراء يذهب الفقه الألماني إلى اعتبار نظرية الظروف الاستثنائية نظرية قانونية على أنها تعد حقاً للدولة وبناءً على ذلك تكون الأعمال والإجراءات التي تتخذها الدولة في أحوال الضرورة هي إجراءات مشروعة ولا ترتب مسؤولية على الإدارة ولا يجوز للغير مطالبة الإدارة بالتعويض عما يلحقهم من ضرر جراء ذلك.
          أما الفقه الفرنسي فقد انقسم إلى مرحلتين تاريخيتين ففي الأولى وهي القديمة اتخذ الفقه النظرة السياسية باعتباره جزءً من المدرسة الديمقراطية ثم ما لبث أن انتقل إلى المرحلة الثانية التي اتخذ فيها النظرة القانونية لنظرية الضرورة حيث ساعدها في هذا المجال قضاء مجلس الدولة الفرنسي، في حين يستند أصحاب نظرية الضرورة باعتبارها نظرية سياسية على مبدأ سيادة القانون وعلى هذا الأساس تكون جميع الإجراءات التي تصدر عن الإدارة لمواجهة أي ظرف استثنائي مخالفة فيها القواعد القانونية بدعوى الضرورة هي إجراءات باطلة وتظل غير مشروعة قانوناً وتترتب المسؤولية على الحكومة ما لم يصححها البرلمان بقوانين التضمينات وهو ما كان عليه الحال في  بريطانيا والولايات المتحدة فقد استقرت أحكام القضاء على اعتبار نظرية الظروف الاستثنائية مجرد نظرية سياسية لا يمكن أن تكون بذاتها أساساً قانوناً للسلطات التشريعية لرئيس الدولة في الظروف الاستثنائية ففي هذه الدول هناك ما يعرف بحالة الطوارئ وهي تقابل حالة الضرورة (11).
          ويطلق البعض على النظرية الألمانية التي تؤخذ من الطبيعة القانونية لنظرية الظروف الاستثنائية بأنها لم تكن في حقيقتها نظرية قانونية بقدر ما كانت تشكل نظرية ديكتاتورية ولذلك لم تكن مقبولة لدى الفقه الفرنسي ودفع ذلك بعضهم إلى رفض الأخذ بالنظرية السياسية وفضلوا عليها النظرية القانونية (12) ولكن على وجه مغاير للفقه الألماني ومن الفقهاء الفرنسيين الذين اخذوا بالتصوير القانوني لنظرية الضرورة العميد (دكي) الذي أباح للسلطة التنفيذية إصدار القرارات التشريعية على اعتبار الضرورة تمثل استثناء على الجانب الشكلي لمبدأ المشروعية ولكن هذا الاستثناء يبقى دائماً محاط بالشروط والقيود (13).
          ويرجع ظهور نظرية الظروف الاستثنائية إلى مجلس الدولة الفرنسي عندما قام بوضع الضوابط الخاصة بها بتحديد شروطها وإضفاء مشروعية من نوع خاص على أعمال الإدارة الصادرة في ظلها عندما عمل المجلس على منح الإدارة سلطات استثنائية في الظروف استثنائية في ظل غياب النصوص الدستورية المتضمنة لهذه النظرية والعمل على تكملة هذه النصوص مما يشوبها من قصور وذلك بإعطاء الإدارة سلطات كافية لمواجهة تلك الظروف الاستثنائية على إن القضاء يعمل على تفسير النصوص الدستورية من خلال تحديد مفهومها والشروط اللازمة لتحقيقها (14) وعلى هذا فان المصدر الحقيقي لهذه النظرية هو القضاء وبالتحديد (قضاء مجلس الدولة الفرنسي) وقد ذهب جانب من الفقه إلى أن هذه النظرية هي من خلق مجلس الدولة الفرنسي خلال الحرب العالمية الأولى ويؤكد ذلك الدكتور يحيى الجمل بقوله (أثناء الحرب العالمية الأولى اخذ مجلس الدولة الفرنسي موقفاً مغاير لموقف محكمة النقض موقفاً اعتمد نظرية الضرورة وان أطلق عليها مسميات أخرى فأحياناً يسميها نظرية سلطات الحرب وأحياناً يسميها نظرية الضرورة)(15)
         وهناك من الفقهاء من يرى بان هذه النظرية موجودة في الفقه الإسلامي وهم يستندون في ذلك إلى قاعدتي (الضرورات تبيح المحضورات) و (الضرورة تقدر بقدرها)وهناك من يرى بأنها مقررة في الشريعة الإسلامية وهي تلتقي في جوهرها مع وجهات نظر الفقهاء المحدثين (16) وهناك من يرى أن نظرية الضرورة أو الظروف الاستثنائية معروفة ومقررة في الشريعة الإسلامية إلا أنها ليست من خلقها حيث أنها معروفة ومقررة في عالم ما قبل الإسلام إذ وردت تطبيقات لحالة الضرورة في كل من الشريعة اليهودية والشريعة المسيحية وان نظرية الضرورة كتنظيم دستوري لم تظهر إلا بعد نشأة الدولة بمفهومها الحديث القائم على مبدأ سيادة القانون ومبادئ احترام حقوق وحريات الإنسان. (17) وان هذه النظرية بشروطها وضوابطها الجديدة هي من خلق مجلس الدولة الفرنسي الذي صاغها في إطار قانوني محدد بحيث لا تعد أية واقعة تدخل ضمن هذه النظرية ما لم تكن داخلة ضمن هذا الإطار.


الهوامش
(6) د. وجدي ثابت غربال، السلطات الاستثنائية لرئيس الجمهورية، منشأة المعارف، الإسكندرية، 1988، ص 75.
(7) د. يحيى الجمل، نظرية الضرورة في القانون الدستوري، دار النهضة العربية، القاهرة، 1974، ص 72.
(8) نفس المصدر السابق، ص 13.
(9) سعدون عنتر الجنابي، أحكام الظروف الاستثنائية في التشريع العراقي، مطبعة وزارة الثقافة والإعلام، بغداد، 1981، ص 59ـ61.
(10)- د.إحسان المفرجي، النظرية العامة  في القانون الدستوري والنظام الدستوري في العراق، بغداد،  1990،، ص 168.
(11) كاظم الجنابي، سلطة رئيس الدولة التشريعية في ظل الظروف الاستثنائية، رسالة ماجستير غير منشورة مقدمة إلى كلية القانون  بجامعة بغداد، 1996، ص 72.
(12) د. خالد رشيد الدليمي، مبدأ المشروعية والرقابة على أعمال الإدارة، محاضرات ألقيت  على طلبة كلية القانون، جامعة بغداد،  المرحلة الثالثة، ص. 15
(13)- د. وجدي ثابت غربال، مصدر سابق، ص 72.
(14) د. شاب توما منصور، القانون الإداري، ط3، مطبعة جامعة بغداد،  بغداد، 1978، ص 173.
(15) د. يحيى الجمل، مصدر سابق، ص 47.
(16) نفس المصدر السابق، ص 47.
(17) كاظم الجنابي، مصدر سابق، ص 8.





جديد قسم : exceptional circumstances

إرسال تعليق