-->

الرأسمالية الجديدة


5- الاتجاه إلى التضخم الدائم


إن من جملة النتائج المترتبة على كل الظاهرات التي تحدثنا عنها، والتي لها كلها مفاعيل مضادة لاحتمالات الأزمات الدورية، ما يمكن تسميته بالاتجاه إلى التضخم الدائم، الذي يتجلى بصورة واضحة في العالم الرأسمالي منذ 1940، منذ بداية الحرب العالمية الثانية أو عشيتها.
إن السبب الأساسي لهذا التضخم الدائم هو أهمية القطاع العسكري، قطاع التسلح، في اقتصاد معظم البلاد الرأسمالية الكبيرة. إذ أن إنتاج الأسلحة يتصف بخاصة فريدة هي أنه يختلق قوة شرائية، مثل السلع الاستهلاكية أو السلع الإنتاجية تماما (ففي المعامل التي تصنع الدبابات أو الصواريخ تدفع أجور، كما في المعامل التي تنتج الآلات أو النسيج، ويحصل الرأسماليون المالكون لهذه المعامل على ربح، تماما كما هو حال الرأسماليين مالكي معامل الحديد والصلب أو معامل النسيج) بيد أنه لا توجد مقابل هذه القوة الشرائية الإضافية سلع إضافية يلقى بها في السوق. وبصورة موازية لخلق القوة الشرائية في القطاعين الأساسيين للاقتصاد الكلاسيكي: قطاع السلع الاستهلاكية وقطاع السلع الإنتاجية، تظهر في السوق أيضا كتلة من السلع يمكن أن تمتص هذه القوة الشرائية، أما في قطاع التسلح فعلى نقيض ذلك إذ لا يقابل خلق القوة الشرائية تزايد في كتلة السلع، لا في السلع الاستهلاكية ولا في السلع الإنتاجية، التي يمكن أن يؤدي بيعها إلى امتصاص القوة الشرائية التي ألقى بها في السوق على هذا النحو.
إن الحالة الوحيدة التي لا تؤدي النفقات العسكرية فيها إلى التضخم هي تلك التي تدفع فيها هذه النفقات بكاملها عن طريق الضريبة، وبمعدلات تحافظ تماما على النسب بين القوة الشرائية لدى العمال والقوة الشرائية لدى الرأسماليين من جهة، وبين قيمة السلع الاستهلاكية وقيمة السلع الإنتاجية من جهة أخرى [3]. ومثل هذه الحالة لا توجد في أي بلد، حتى في البلاد التي يبلغ الإقتطاع الضريبي فيها ذروته. وفي الولايات المتحدة خاصة لا تغطي النفقات العسكرية قط عن طريق الضرائب، عن طريق تخفيض القوة الشرائية الإضافية، وتبعا لذلك فثمة إتجاه إلى التضخم الدائم.
وهناك بالإضافة إلى ذلك ظاهرة من طبيعة بنيوية، في الإقتصاد الرأسمالي في عصر الاحتكارات، ذات أثر مماثل، هي صلابة اتجاه الأسعار نحو الانخفاض.
إن كون التروستات الاحتكارية الكبرى تمارس رقابة شديدة إن لم تكن كاملة على مجموعة بكاملها من الأسواق، بخاصة أسواق السلع الإنتاجية والسلع الاستهلاكية المعمرة، يتجلى بانعدام المنافسة على الأسعار بالمعنى الكلاسيكي للكلمة. وفي كل مرة يكون العرض أقل من الطلب تزداد الأسعار، بينما تبقى الأسعار مستقرة أو تنخفض بشكل غير محسوس كلما تجاوز العرض الطلب بدلا من أن تنخفض. إنها ظاهرة نلاحظها في الصناعة الثقيلة وفي صناعة السلع الاستهلاكية المعمرة منذ خمسة وعشرين عاما. إنها ظاهرة ترتبط في تحركها بمرحلة التوسع في المدى الطويل، التي كنا نتحدث عنها قبل قليل، ذلك أننا، وينبغي أن نعترف بذلك صراحة، لا نستطيع أن نتنبأ بما سيكون عليه تطور أسعار السلع الاستهلاكية المعمرة عندما تصل مرحلة التوسع الطويلة المدى هذه إلى نهايتها.
وليس من المستبعد إذا ما تضخمت القدرة الإنتاجية الفائضة في صناعة السيارات أن يؤدي ذلك إلى صراع جديد في المنافسة على الأسعار وإلى انخفاضات كبيرة. ويمكن الدفاع عن نظرية أن أزمة السيارات الرهيبة التي يتوقع حدوثها في النصف الثاني من الستينات (1965، 1966، 1967) يمكن امتصاصها بسهولة نسبية في أوروبا الغربية إذا انخفض سعر مبيع السيارات الصغيرة إلى النصف، أي حين تباع سيارة أربعة أحصنة أو الحصانين بـ 200 ألف فرنك قديم أو 250 ألفا. إذ سيحصل آنذاك توسع كبير في الطلب بحيث يكون من المرجح أن تستوعب القدرة الإنتاجية الفائض بشكل طبيعي. بيد أن هذا الأمر لا يبدو ممكنا في إطار الاتفاقات الراهنة. إلاّ أنه إذا وقع صراع تنافسي حاد امتد مدة طويلة من خمس إلى ست سنوات، وهو أمر ممكن تماما في صناعة السيارات في أوروبا، تصبح الاحتمال قائما. ولنضف فورا أن ثمة احتمالا أرجح هو إلغاء القدرة الإنتاجية الفائضة عن طريق إغلاق واحتجاب مجموعة من المنشآت، وعند ذلك يحول زوال هذه القدرة الفائضة دون أي انخفاض هام في الأسعار. وهذا هو رد الفعل الطبيعي في مثل هذا الوضع في النظام الرأسمالي للاحتكارات. لا ينبغي إذن أن نستبعد رد الفعل الآخر، إلاّ أننا لم نشاهد ذلك حتى الآن في أي فرع من فروع الصناعة، ففي صناعة النفط مثلا توجد ظاهرة فرط انتاج كامنة منذ ست سنوات، غير أن تخفيضات الأسعار التي قبلت بها التروستات الضخمة التي تحقق معدلات أرباح 100% و150% كانت تافهة جدا إذ لا تتجاوز 5% أو 6% بينما في وسعها تخفيض سعر البنزين إلى النصف لو أرادت.

6- البرمجة الإقتصادية


إن الوجه الآخر للميدالية، ميدالية الرأسمالية الجديدة، هو مجموع الظاهرات التي لخصناها بإيجاز تحت عنوان «الاقتصاد المنسق»، أو «البرمجة الاقتصادية» أو «التخطيط التوجيهي». إنها شكل آخر من أشكال التدخل الواعي في الاقتصاد، مناقض لروح الرأسمالية التقليدية، إلاّ أنه تدخل يتميز بأنه في جوهره ليس من فعل السلطات العامة، بل بالأحرى جاء نتيجة تعاون، واندماج بين السلطات العامة من جهة والمجموعات الرأسمالية من جهة أخرى.
كيف نفسر هذا الاتجاه العام إلى «التخطيط التوجيهي»، أو «البرمجة الاقتصادية» أو «الاقتصاد المقنن»؟
ينبغي أن ننطلق من حاجة فعلية لرأس المال الكبير. وهي حاجة تنشأ بالذات من الظاهرة التي شرحناها في القسم الأول من حديثنا. لقد تحدثنا فيها عن تسارع نسق تجديد المنشآت الميكانيكية، نتيجة ثورة تكنولوجية مستمرة إلى حد ما. ولكن القول بتسارع نسق تجديد رأس المال الثابت إنما يعني القول بضرورة إطفاء نفقات الاستثمار المتزايدة باطراد في فترة زمنية تقصر باطراد. ومن المؤكد أن هذا الإطفاء يبغي أن يكون مخططا محسوبا بالدقة الممكنة، لتجنيب الاقتصاد التقلبات في المدى القصير التي تهدد بنشر الذعر والارتباك في مجموعات تعمل بمليارات الفرنكات. في هذه الواقعة الأساسية يكمن سبب التخطيط الاقتصادي الرأسمالي، سبب الاندفاعية نحو الاقتصاد المنسق.
إن رأسمالية الاحتكارات الضخمة في عالم اليوم تكدس عشرات المليارات وتوظفها في استثمارات ينبغي إطفاؤها بسرعة. لم يعد في وسعها تحمل ترف التعرض لأخطار تقلبات دورية ضخمة. فثمة ضرورة إذن لضمان استرداد نفقات الإطفاء هذه، أن تكون مطمئنة إلى استمرار هذه الدخول على الأقل في الفترات المتوسطة المدى التي تقابل إلى حد ما المدة اللازمة لإطفاء رأس المال الثابت، أي فترات تمتد حاليا من أربع إلى خمس سنوات.
كما أن هذه الظاهرة نشأت في داخل المشروع الرأسمالي نفسه، إذ يفترض التعقيد المتزايد باطراد في عملية الإنتاج وضع خطط بدقة متزايدة لكي يكون ممكنا تسيير المجموع معا. إن البرمجة الرأسمالية ليست، في التحليل الأخير، سوى توسيع، أو بالأحرى تنسيق، على صعيد قومي، لما كان يجري من قبل على مقياس المشروع الرأسمالي الكبير أو المجموعة الرأسمالية أو التروست أو الكارتل التي تضم مجموعة من المشروعات.
ما هي الخصائص الأساسية لهذا التخطيط التوجيهي؟ خلافا للتخطيط الاشتراكي، الذي هو بالتالي من طبيعة مختلفة جوهريا، فإن الأمر لا يتعلق بتحديد عدد من الأهداف، بشكل أرقام الإنتاج، وتأمين بلوغ هذه الأهداف فعلا، بقدر ما يتعلق بتنسيق خطط التثميرات التي وضعتها من قبل المشروعات الخاصة، والقيام بهذا التنسيق الضروري على الأكثر عن طريق اقتراح بعض الأهداف التي تعتبر ذات أولوية على صعيد السلطات العامة أي تطابق المصلحة الكلية للطبقة البرجوازية.
وفي بلد مثل بلجيكا أو بريطانيا العظمى تمت هذه العملية بصورة فجة نوعا ما، أما في فرنسا حيث يجري كل شيء في مستوى فكري أذكى بكثير، وحيث يلجأ كثيرا إلى التمويه، فإن الطبيعة الطبقية للعملية أقل ظهورا. إلاّ أنها ليست أقل تماثلا مع عملية البرمجة الاقتصادية في البلاد الرأسمالية الأخرى. فنشاط «لجان الخطة» و«مكتب الخطة» و«مكاتب البرمجة» يقوم في جوهره على استشارة ممثلي مختلف جماعات أرباب العمل، والتأليف بين مشروعاتهم الاستثمارية وتنبؤاتهم عن حالة السوق، و«إقامة التناغم» فيما بين هذه التنبؤات المتعلقة بكل قطاع، مع السعي لتجنب الإختناقات أو الاستخدام المزدوج.
لقد نشر جيلبرت ماتيو ثلاثة مقالات جيدة بهذا الصدد في صحيفة «لوموند» (2 و3 و6 مارس 1962)أشار فيها أنه مقابل 280 نقابي ساهموا في أعمال مختلف لجان الخطة ولجانها الفرعية كان ثمة 1280 مدير مشروع أو ممثل نقابات أرباب العمل. ويذهب فرانسوا بيرو إلى «أن الخطة الفرنسية توضح وتنفذ، عمليا، تحت النفوذ والتأثير الغالب للمشروعات الكبيرة والمؤسسات المالية الكبيرة». وأكد ليبران ، رغم أنه قائد نقابي شديد الاعتدال، إن التخطيط الفرنسي «هو في جوهره تنسيق بين كبار ممثلي رأس المال وكبار موظفي الدولة، وللأولين بطبيعة الحال وزن أكثر من الآخرين».
إن هذا التقابل والتنسيق بين قرارات المشروعات جد مفيد للمنظمين الرأسماليين، إذ يكون نوعا من السبر للسوق على المستوى القومي، متوافقا للمدى الطويل، وهو أمر يصعب جدا تحقيقه بالتقنية الجارية. وعلى أية حال، تبقى الأرقام التي يقدمها أرباب العمل كتنبؤات أساس كل الدراسات والحسابات.
فثمة إذن مظهران أساسيان يميزان هذا النوع من البرمجة أو «التخطيط التوجيهي».
فهو من جهة يرتكز بصورة وثيقة جدا على مصالح أرباب العمل الذين يشكلون نقطة إنطلاق للحساب. وعندما نقول أرباب العمل لا نقصد جميع أرباب العمل، بل المقصود الفئات المسيطرة من الطبقة البرجوازية، أي الاحتكارات والتروستات. وبقدر ما يمكن أن يحصل أحيانا تضارب مصالح بين احتكارات شديدة البأس (واذكروا التضارب الذي وقع بسبب أسعار الفولاذ في الستة الماضية بين التروستات المنتجة للفولاذ والتروستات المستهلكة له) يمكن للسلطات العامة أن تلعب إلى حد ما دور الحكم لصالح هذه المجموعات الرأسمالية أو تلك. إنها على نحو ما مجلس إدارة الطبقة البرجوازية يعمل من أجل مجموع المساهمين، من أجل مجموع أعضاء الطبقة البرجوازية، في صالح الفئة المسيطرة، لا في صالح الديموقراطية والعدد الكبير.
وهناك، من جهة أخرى، عدم اليقين أو الشك، الذي تقوم عليه كل هذه الحسابات، تنجم عن الطابع التنبؤي البحث للبرمجة، وبحكم عدم وجود أدوات للتنفيذ بيد السلطات العامة، أو بيد المصالح الخاصة، ليمكن بلوغ ما جرى التنبؤ به فعليا.
ففي أعوام 1956-1960 أخطأ مرتين واضعو برامج الجماعة الأوروبية للفحم والفولاذ، كما أخطأ واضعو برامج وزارة الشؤون الاقتصادية البلجيكية، فيما يتعلق بتنبؤاتهم حول استهلاك الفحم في أوروبا الغربية وبخاصة في بلجيكا. كانت المرة الأولى عشية وخلال أزمة التموين التي نشأت بسبب أزمة السويس، فقد قدروا لعام 1960 تزايدا كبيرا في الاستهلاك، وبالتالي في إنتاج الفحم، بحيث ينبغي أن يرتفع الإنتاج البلجيكي من 30 مليون طن فحم سنويا إلى حوالي 40 مليون طن، أما في الواقع فقد انخفض في عام 1960 من 30 مليون طن إلى 20 مليون طن، وبذلك أخطأ واضعو البرامج بما يعادل النصف، وهو أمر غير يسير، بيد أنهم ارتكبوا لحظة سجلوا هذا الخطأ خطأ ثانيا في الاتجاه المعاكس. كانت حركة انخفاض استهلاك الفحم جارية، فتنبأوا بأنها ستستمر، وأكدوا وجوب الاستمرار في إغلاق مناجم الفحم. بيد أن العكس هو الذي حصل بين عامي 1960 و1963: فقد ارتفع استهلاك بلجيكا في الفحم من 20 مليون طن إلى 25 مليون طن سنويا، بحيث أدى إلغاء ثلث القدرة الإنتاجية البلجيكية للفحم إلى نقص حاد في الفحم، بخاصة خلال شتاء 1962/1963، وتعين استيراد الفحم، حتى من الفيتنام.
هذا المثل يسمح لنا بأن نلتقط بصورة واقعية الوسائل التقنية التي يضطر «المبرمجون» لاستخدامها على الدوام تقريبا في حساباتهم القطاعية: إنهم يسقطون فحسب، في المستقبل، الاتجاه الراهن للتطور، مع تصحيحه بمعاملات مرونة الطلب ومع الأخذ بعين الاعتبار المعدل العام للتوسع الاقتصادي.

7- ضمان الدولة للربح


إن لهذا «الاقتصاد المنسق» مظهرا آخر، يُبرزون خطورته على الحركة العمالية، هو فكرة أن «البرمجة الاجتماعية» أو «سياسة الدخول» تدخل ضمنا في فكرة «البرمجة الاقتصادية». إنه يستحيل تأمين استقرار نفقات التروستات ودخولها، خلال فترة خمس سنوات، أي إلى أن يتم إطفاء جميع المنشآت الجديدة، دون تأمين استقرار نفقات الأجور. لا يمكن «تخطيط التكاليف» ما لم «تخطط» في الوقت ذاته «تكاليف» اليد العاملة، أي إذا لم تقدر معدلات ثابتة لزيادة الأجور والسعي للتمسك بها بصلابة.
لقد حاول أرباب العمل والحكومات فرض هذا الاتجاه على النفقات في جميع بلاد أوروبا الغربية، وتجلت هذه الجهود بشكل خاص في تمديد مدة العقود بتشريعات تجعل الإضرابات المفاجئة أكثر صعوبة أو تحرم الإضرابات «البرية» مرفقة بدعاية رنانة لصالح «سياسة الدخول» هي في الظاهر «الضمان الوحيد» ضد «أخطار التضخم».
إن الفكرة القائلة بوجوب التوجه نحو «سياسة الدخول» هذه، بغية الوصول إلى حساب دقيق لمعدلات زيادة الأجور، وانه بذلك يمكن تجنب النفقات المهدورة الناشئة عن الإضرابات «التي لا تعود بخير على أحد، لا على العمال ولا على الأمة»، هذه الفكرة أخذت تنتشر بشكل متزايد في فرنسا. وهي تنطوي على فكرة الاندماج العميق للنقابة بالنظام الرأسمالي. ومن هذه الزاوية فإن النقابة لا تعود، في الحقيقة، أداة نضال يستخدمها العمال لتعديل توزيع الدخل القومي، بل تغدو ضمانا «للسلم الاجتماعي»، ضمانا لأرباب العمل استقرار عملية العمل وتجديد رأس المال الثابت طوال المدة اللازمة لتجديده.
ونحن في غنى عن القول إن هذا شرك ينصب للعمال والحركة العمالية لأسباب كثيرة، يتعذر علي الحديث عنها بتفصيل، منها سبب جوهري ينجم عن طبيعة الاقتصاد الرأسمالي ذاتها، واقتصاد السوق بشكل عام، سلم به على أية حال السيد ماسيه المدير الحالي للخطة الفرنسية، في محاضرة ألقاها مؤخرا في بروكسيل.
إن الأجر، في النظام الرأسمالي، هو ثمن قوة العمل. وهذا الثمن يدور حول قيمة قوة العمل هذه تبعا لقوانين العرض والطلب. فما هو في الأحوال العادية تطور ميزان القوى، في النظام الرأسمالي، تطور العرض والطلب فيما يتعلق باليد العاملة، خلال دورة اقتصادية؟ في خلال فترة الركود وعودة النهوض الاقتصادي توجد بطالة تزن على الأجور، وعلى هذا فثمة صعوبات كبيرة جدا أمام العمال في كفاحهم من أجل زيادة كبيرة في الأجور.
والآن أية مرحلة من مراحل دورة ما هي الأكثر ملائمة للنضال من أجل زيادة الأجور؟ إنها، بدهيا، المرحلة التي يكون فيها الاستخدام كاملا، بل التي يوجد فيها نقص، في اليد العاملة، أي المرحلة العليا من الازدهار boom، في أعلى لحظة من لحظات تحرك وتوتر الاقتصاد القومي. ففي هذه المرحلة يكون الإضراب من أجل زيادة الأجور أيسر، ويكون أرباب العمل أكثر استعدادا لتقديم تنازلات فيما يتعلق بالأجور، حتى بدون إضرابات، وذلك تحت ضغط نقص اليد العاملة. بيد أن أي خبير رأسمالي لتلك اللحظة سيقول لكم إنه خلال هذه الفترة بالضبط ومن زاوية الاستقرار، وبقدر ما لا يطرح على بساط البحث معدل الربح الرأسمالي (لأن هذا يكمن ضمنا في أية محاكمة في هذا القبيل) تغدو الإضرابات والعمل على زيادة الأجور «أخطر ما تكون»؛ لأنكم إذا زدتم الطلب الإجمالي، عند وجود استخدام كامل لكل «عوامل الإنتاج»، فإن الطلب الإضافي يصبح تضخما بصورة آلية. وبعبارة أخرى: إن كل منطق الإقتصاد المنسق إنما هو بالضبط تفادي الاضطرابات والحركات المطلبية فقط خلال المرحلة الوحيدة من مراحل الدورة التي يكون فيها ميزان القوى بين الطبقات لصالح الطبقة العاملة، أي في الطور الوحيد من أطوار الدورة الذي يكون فيه الطلب على اليد العاملة أكبر بكثير من العرض، في الطور الوحيد من أطوار الدورة التي يمكن الأجور أن تحقق فيه قفزة إلى الأمام، في الفترة التي يكون فيها اتجاه توزيع الدخل القومي بين الأجور والأرباح إلى التدهور ممكنا تعديله لصالح الأجراء.
مما يعني التفاهم لمنع الزيادات المسماة تضخمية للأجور خلال هذه المرحلة بالذات من مراحل الدورة، وإننا ننتهي بذلك ببساطة إلى تخفيض المعدل الإجمالي لزيادات الأجور بالنسبة للدورة بمجموعها، أي تحقيق دورة يكون فيها النصيب النسبي للأجور من الدخل القومي متجها إلى الانخفاض على الدوام. إن هذا النصيب يتجه أصلا إلى الانخفاض في فترة الإنتعاش الاقتصادي لأنها بحكم تعريفها فترة ارتفاع معدل الربح (ولو لم تكن كذلك لما كان ثمة انتعاش!). ولئن كان يحال دون تمكين العمال من تصحيح هذا الاتجاه في فترة ذروة الانتعاش والاستخدام الكامل، فإن هذا يعني أن الاتجاه إلى التدهور في توزيع الدخل القومي سيستمر. وثمة تأكيد عملي لنتائج سياسة توزيع الدخول جامد تماما تراقبها الدولة بمعونة النقابات: كما طبقت في هولندا منذ 1945. إن النتائج ماثلة أمامنا: تدهور صارخ للنصيب النسبي للأجور في توزيع الدخل القومي لا مثيل له في أوروبا كلها، بما في ذلك ألمانيا الغربية.
وفضلا عن ذلك هناك، من الناحية «التقنية» البحتة، حجتان قاطعتان للرد على أنصار «سياسة الدخول»:
إذا كنتم تطالبون، لأسباب تتعلق بالوضع الإقتصادي، بألاّ تتجاوز الزيادة في الأجور تزايد الإنتاجية في فترة الاستخدام الكامل، فلم لا تطالبون بزيادة أكبر في الأجور في فترة البطالة؟ فمثل هذه الزيادة لها ما يسوغها من ناحية الوضع الاقتصادي في مثل هذا الوقت لأنها تعيد الانتعاش إلى الإقتصاد عن طريق زيادة الطلب الإجمالي.
كيف يمكن الأخذ «بسياسة الدخول»، وإن تكن قليلة الجدوى، إذا كانت دخول الأجور هي وحدها المعروفة حقا، ألا تفترض أية سياسة للدخول مقدما الرقابة العمالية على الإنتاج وعلنية دفاتر الحسابات وإلغاء السر المصرفي بغية تحديد الدخول الصحيحة للرأسماليين وحقيقة التزايد في الإنتاج؟
كل هذا لا يعني قط أن علينا أساسا أن نسلم بالحاجة التقنية للاقتصاديين البرجوازيين، إذ من الخطأ تماما القول إن زيادة في الأجور تفوق تزايد الإنتاجية هي تضخمية بصورة آلية في فترة الاستخدام الكامل. إن هذا القول لا يصح إلاّ بقدر ما نترك معدل الربح ثابتا لا يمس. وإذا كنا نريد تخفيض معدل الربح، عن طريق تدخل عنيف ضد الملكية الخاصة، كما يقول «البيان الشيوعي»، فلن يكون هناك تضخم على الإطلاق، إذ ننزع فقط قوة شرائية من الرأسماليين لنحيلها إلى العمال. إن الاعتراض الوحيد الذي يمكن أن يتذرع به هو أن من شأن هذا الأمر أن يبطئ الاستثمارات. بيد أنه يمكن رد حجة الرأسماليين هذه عليهم بالقول إنه ليس أمرا سيئا أن نبطئ الاستثمارات عندما نكون في فترة استخدام كامل وفي ذروة الازدهار. بل ان هذا التقليص في الاستثمارات سيكون قد بدأ يحصل فعلا في ذلك الوقت بالذات، وأن من الأفضل، من وجهة نظر سياسة مقاومة التقلبات، تخفيض الأرباح وزيادة الأجور لكي يتاح لطلب المأجورين، أي المستهلكين، الأخذ بيد الاستثمارات بقصد الحفاظ على استمرار وضع الازدهار الذي يهدده الاتجاه المحتوم للاستثمارات الإنتاجية إلى الانحدار نوعا ما اعتبارا من وقت معين.
من كل هذا يمكننا أن نخلص إلى النتيجة التالية: إن تدخل السلطات العامة في الحياة الإقتصادية، والاقتصاد المنسق والبرمجة الإقتصادية، والتخطيط التوجيهي ليست أبدا سياسات محايدة من وجهة النظر الإجتماعية، إنها أدوات تدخل في الاقتصاد تستخدمها الطبقة البرجوازية أو الفئات المسيطرة من الطبقات البرجوازية. ولا تقوم بدور الحكم بين البرجوازية والبروليتاريا. إن السلطات العامة الرأسمالية إنما تقوم بدور الحكم بين مختلف الجماعات الرأسمالية داخل الطبقة الرأسمالية.
إن الطبيعة الحقيقية للرأسمالية الجديدة، التدخل المتزايد من قبل السلطات العامة في الحياة الاقتصادية، يمكن تلخيصها بهذه الصفة: في نظام رأسمالي مهدد بالسير نحو الفناء إذا ما ترك لآليته الإقتصادية الخاصة يتوجب على الدولة أن تصبح الضامن لربح الرأسمالي، الضامن لربح الفئات الاحتكارية المسيطرة من الطبقات البرجوازية. وهي تضمن هذا الربح بقدر ما تحد من اتساع التقلبات الدورية. إنها تضمنه عن طريق مشتريات الدولة، العسكرية وشبه العسكرية، المتزايدة في أهميتها. وهي تضمنه باستخدام تقنيات خاصة تظهر بالذات في إطار الاقتصاد المنسق، كما هو الحال في نظام شبه العقد في فرنسا، وهي صراحة ضمانات للربح بغية تصحيح بعض اختلالات التنمية أو الاختلالات الإقليمية أو بين الفروع. إن الدولة تقول للرأسمالي: «إذا استثمرت رؤوس أموالك في هذه المنطقة أو تلك أو في هذا القطاع أو ذاك فسأضمن لك 6% أو 7% من الأرباح بالنسبة لرأسمالك في كل الأحوال، حتى لو كانت بضاعتك رديئة لا تصلح للبيع، أو تعرضت للفشل». ذلكم هو الشكل الأخير والأكثر وضوحا لهذا الضمان الذي تقدمه الدولة لربح الاحتكارات، وهو أمر لم يبدعه التقنيون الفرنسيون واضعو الخطة لأن الألمان شاخت Schcht وفونك Funk وغورينغ Goering طبقوه من قبل في إطار اقتصاد التسلح النازي والخطة الرباعية لإعادة التسلح.
إن ضمان الدولة للربح هذا يمثل في التحليل الأخير، كما هو الأمر بالنسبة لكل التقنيات المجدية حقا في مقاومة التقلبات، إعادة توزيع للدخل القومي، لصالح أرباح الجماعات الاحتكارية الحاكمة بواسطة الدولة، عن طريق توزيع معونات، بتخفيض الضرائب، بمنح قروض بمعدلات منخفضة للفائدة، تقنيات تؤدي كلها في التحليل الأخير إلى ارتفاع معدل الربح، مما يؤدي بداهة، في إطار اقتصاد رأسمالي يعمل بصورة عادية، لا سيما في فترة توسع طويلة المدى، إلى حفز الاستثمارات ويعمل في الاتجاه الذي رسمه واضعو المشروعات.
إننا أمام أحد أمرين: فإما أن نضع أنفسنا بصورة منطقية تماما ومتماسكة في إطار النظام الرأسمالي، ويتعين عند ذاك عليناا الاعتراف بأن ليس ثمة سوى وسيلة واحدة لتأمين المتزايد المطرد في الاستثمارات لنهضة صناعية تقوم على زيادة الاستثمارات الخاصة، وهي زيادة معدل الربح.
إما أن نرفض، بوصفنا اشتراكيين، السير في اتجاه زيادة معدل الربح، وما من وسيلة للخروج من المأزق عند ذاك إلاّ في تنمية قطاع عام قوي في الصناعة، إلى جانب القطاع الخاص، أي الخروج عمليا عن الإطار الرأسمالي والمنطق الرأسمالي، والانتقال إلى ما يسمى في بلادنا الإصلاحات البنيوية المضادة للرأسمالية.
لقد شهدنا صراع الاتجاه هذا في تاريخ الحركة العمالية البلجيكية في السنوات الأخيرة، وستواجهونه في فرنسا في السنوات المقبلة، حين تشهدون أول اندفاعة نحو البطالة.
إن قادة اشتراكيين، لا أريد التشكك في استقامتهم الشخصية، ذهبوا إلى حد القول بخشونة وصفاقة ما ذكرته لكم قبل هنيهة: إذ كنتم تريدون امتصاص البطالة في الأمد القصير في إطار النظام الرأسمالي، فما من وسيلة للعمل سوى زيادة معدل الربح. وطبيعي أنهم لم يذكروا أن هذا يتضمن إعادة توزيع للدخل القومي على حساب المأجورين. أي أنه لا يمكن، إلاّ بتضليل الناس، أن نبشر في آن واحد بتوسع اقتصادي أكبر سرعة، يتضمن في النظام الرأسمالي زيادة الاستثمارات الخاصة وإعادة توزيع الدخل القومي لصالح المأجورين. إن هذين الهدفين لا توافق بينهما إطلاقا في النظام الرأسمالي، على الأقل في الأمد القصير والأمد المتوسط.
إن الحركة العمالية تجد نفسها إذن أمام خيار أساسي بين سياسة إصلاحات بنى الرأسمالية الجديدة، التي تتضمن اندماج النقابات في النظام الرأسمالي وتحولها إلى حراس لتأمين السلم الاجتماعي خلال فترة إطفاء الرأسمال الثابت، وسياسة مضادة بصورة جذرية للرأسمالية تتبنى إصلاحات معادية للرأسمالية في المدى المتوسط، وتهدف أساسا إلى نزع مقاليد السيطرة على الاقتصاد من المجموعات المالية والتروستات والاحتكارات، ووضعها بين أيدي الأمة، وبناء قطاع عام ذي تأثير حاسم على الأثمان والصناعة والنقل، وإقامة هذا كله على أساس الرقابة العمالية، أي قيام ازدواج السلطة في المشروع وفي الاقتصاد بمجموعه، سرعان ما ينتهي إلى إزدواج في السلطة السياسية

جديد قسم : theory

إرسال تعليق