الرأسمالية الجديدة
1- أصول الرأسمالية الجديدة
لقد عدلت
الأزمة الاقتصادية الكبرى لعام 1929 بصورة أساسية موقف البرجوازية ومنظريها من
الدولة أولا، ثم عدلت موقف هذه البرجوازية ذاتها من مستقبل نظامها.
منذ
سنوات مضت جرت في الولايات المتحدة محاكمة انطوت على فضيحة، هي محاكمة «ألغير هيس»
الذي كان نائبا لوزير خارجية الولايات المتحدة أثناء الحرب. في هذه المحاكمة أدلى
صحفي يعمل في مؤسسة «لومي» اسمه «شمبرز» وهو من أصدقاء هيس الحميمين، بشهادة
رئيسية ضد هيس، إذ إتهمه بأنه كان شيوعيا، وأنه سرق وثائق من وزارة الخارجية وأنه
نقلها إلى الإتحاد السوفياتي. شمبرز هذا، الذي كان رجلا عصابيا نوعا ما، والذي
أنهى حياته المهنية كمحرر الصفحة الدينية في المجلة الأسبوعية «التايم» بعد أن كان
شيوعيا خلال عشر سنوات من حياته، ألف كتابا ضخما عنوانه «شاهد». في هذا الكتاب
توجد فقرة تتحدث تقريبا كما يلي عن فترة 1929-1939: «في أوروبا العمال اشتراكيون
والبرجوازيون محافظون، أما في أمريكا فالطبقات المتوسطة محافظة، والعمال
ديموقراطيون، والبرجوازيون شيوعيون».
إنه لمن
السخف أن نصور الأمور بهذا الشكل المتطرف. غير أنه ما من شك في أن عام 1929
والفترة التي تلت الأزمة الاقتصادية الكبرى 1929-1932، كانت تجربة دامية بالنسبة
للبرجوازية الأمريكية، وهي برجوازية كانت الوحيدة، بين كل الطبقات الرأسمالية
العالمية، المفعمة بثقة كلية عمياء بمستقبل نظام «المشروع الحر». وتلقت صدمة رهيبة
أثناء أزمة 1929-1932، كانت بحق بالنسبة للمجتمع الأمريكي بداية وعي المسألة
الإجتماعية وطرح النظام الرأسمالي موضع تساؤل، وهي تقابل بشكل عام الفترة التي
كانت أوروبا قد عاشتها عند ولادة الحركة العمالية الإشتراكية في فترة 1865-1890 في
القرن الأخير.
هذا
التساؤل حول النظام الرأسمالي قد اتخذ بالنسبة للبرجوازية أشكالا متباينة على
الصعيد العالمي. فقد اتخذ شكل محاولة تدعيم الرأسمالية عن طريق الفاشية ومختلف
التجارب الديكتاتورية في بعض بلاد أوروبا الغربية والوسطى والجنوبية. واتخذ شكلا
أقل عنفا في الولايات المتحدة، في هذا المجتمع الأمريكي لأعوام 1932-1940 الذي
ارتسمت فيه مسبقا ملامح ما يسمى اليوم بالرأسمالية الجديدة.
لماذا
كانت السمة الأساسية للرأسمالية الجديدة بالأحرى سمة «إسترخاء مثالي» للتوترات
الإجتماعية، وليس التجربة الفاشية منتشرة معممة؟ لقد كان النظام الفاشي نظام أزمة
اجتماعية واقتصادية وسياسية بلغت حدها الأقصى، وتوتر حاد جدا في العلاقات بين
الطبقات، نجم في التحليل الأخير عن فترة طويلة من الركود الاقتصادي، إنعدم فيها أو
كاد هامش المناقشة والمفاوضة بين الطبقة العاملة والبرجوازية. كان النظام
الرأسمالي قد أصبح لا يتلاءم مع استمرار حركة عمالية مستقلة إلى هذا الحد أو ذاك.
يمكننا
أن نميز، في تاريخ الرأسمالية، إلى جانب الأزمات الدورية، التي تقع كل خمس سنوات
أو سبع أو عشر سنوات، دورات طويلة المدى، تحدث عنها لأول مرة الاقتصادي الروسي
كوندراتييف، ويمكن أن نسميها موجات طويلة المدى تتراوح من 25 إلى 30 سنة. إن موجة
طويلة المدى تتسم بمعدلات مرتفعة في النمو تعقبها موجة طويلة المدى تتسم بمعدل نمو
أدنى. ويبدو لي واضحا أن الفترة الواقعة بين 1913 و1940 كانت واحدة من هذه الموجات
الطويلة المدى من ركود الإنتاج الرأسمالي، واتسمت كل الأزمات التي تعاقبت خلالها،
من أزمة 1913 إلى أزمة 1920، من أزمة 1920 إلى أزمة 1929، من أزمة 1929 إلى أزمة
1938، بكونها أزمات كساد قاسية بشكل خاص بحكم أن الاتجاه الطويل المدى كان اتجاه
ركود. إن الدورة الطويلة المدى التي بدأت مع الحرب العالمية الثانية والتي ما نزال
نعيش فيها -ولنقل دورة 1940-1965 أو 1940-1970- اتسمت بالعكس بالازدهار (التوسع)،
وبسببه اتسع هامش المفاوضة والمناقشة بين البرجوازية والطبقة العاملة. وهكذا وجدت
إمكانية تدعيم النظام على أساس تنازلات مُنحت للعمال، وهي سياسة اتبعت على مقياس
دولي في أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية، وقد تتبع في المستقبل حتى في بلاد
متعددة من أوروبا الجنوبية، وهذه السياسة هي سياسة الرأسمالية الجديدة، التي تقوم
على تعاون وثيق نوعا ما بين البرجوازية الصاعدة والقوى المحافظة في الحركة
العمالية، أساسه وجود نزوع لرفع مستوى معيشة العمال.
بيد أن
خليفة هذا التطور هي وضع النظام موضع التساؤل، والشك في مستقبل النظام الرأسمالي،
ولم يعد هذا الموضوع مثار جدل محتمل. إن سائر الشرائح القادرة على التقرير والبت
من البرجوازية تسيطر عليها الآن القناعة العميقة بأن آلية الإقتصاد ذاتها، إن
«آليات السوق»، عاجزة عن تأمين استمرار النظام، وأنه لا يمكن الركون إلى السير
الداخلي الآلي للاقتصاد الرأسمالي، وأن لابد لإنقاذ هذا النظام من تدخل واع يتزايد
اتساعه وانتظامه ومنهجيته باطراد.
وبقدر ما
تفقد البرجوازية الثقة في قدرة الآلية الأوتوماتيكية للاقتصاد الرأسمالي على إبقاء
هذا النظام، بقدر ما تحس بضرورة تدخل قوة أخرى لانقاذ هذا النظام على المدى
الطويل، وهذه القوة الأخرى هي الدولة. إن الرأسمالية الجديدة تتصف قبل كل شيء
بتدخل متزايد من قبل السلطات العامة في الحياة الاقتصادية. ومن هذه الزاوية فإن
تجربة الرأسمالية الجديدة الراهنة في أوروبا الغربية لا تعدو أن تكون امتدادا
لتجربة روزفيلت في الولايات المتحدة.
غير أنه
لابد لفهم أصول الرأسمالية الجديدة من أن نأخذ بعين الاعتبار عاملا ثانيا يفسر
تدخل الدولة المتزايد في الحياة الإقتصادية، وهو الحرب الباردة، أو بصورة أعم
التحدي الذي أطلقه مجموع القوى المعادية للرأسمالية ضد الرأسمالية العالمية. إن
مناخ التحدي هذا يجعل احتمال أزمة جديدة اقتصادية خطيرة من نوع أزمة 1929-1933
أمرا لا يمكن احتماله. وحسبنا أن نتصور ما يمكن أن يحصل في ألمانيا لو وجد خمسة
ملايين عاطل في جمهورية ألمانيا الاتحادية، لندرك أسباب هذه الاستحالة من وجهة
النظر السياسية. ولهذا كان تدخل السلطات العامة في الحياة الاقتصادية للبلاد
الرأسمالية موجها قبل كل شيء ضد التقلبات، أو إذا شئنا ضد الأزمات.
2- ثورة تقنية دائمة
لنتوقف
لحظة عند هذه الظاهرة التي لا يمكن بدونها فهم الرأسمالية الجديدة المشخصة التي
نعرفها منذ خمسة عشر عاما في أوروبا الغربية، وهي ظاهرة التوسع على المدى الطويل.
ينبغي أن
نتذكر، لفهم هذه الظاهرة ولفهم أسباب هذه الموجة الطويلة المدى التي بدأت مع الحرب
العالمية الثانية في الولايات المتحدة، ينبغي أن نتذكر أننا نجد دوما في معظم
الدورات التوسعية الأخرى، التي شهدناها في تاريخ الرأسمالية، نفس الثابتة Constante، ألا وهي الثورات التقنية. ليس
من قبيل الصدفة أن موجة توسع من هذا النوع قد سبقت فترة الركود والأزمة التي امتدت
من 1913 إلى 1940. إن هذه الفترة في تاريخ الرأسمالية، فترة أواخر القرن التاسع
عشر، كانت فترة سلم تام، لم تحدث خلالها، أو لم تحدث تقريبا، حرب، باستثناء الحروب
الاستعمارية، وبوشر خلالها بتطبيق جملة بكاملها في الأبحاث والاكتشافات التقنية
التي تم الوصول إليها في المرحلة السابقة. بل إننا نشهد في فترة التوسع التي
نعيشها حاليا، عملية تسارع في التقدم التقني، عملية ثورة تقنية حقيقية، حتى اصطلاح
الثورة الصناعية الثانية أو الثالثة عليها ليس مطابقا تماما لحقيقتها. والحقيقة
إننا أمام تحول يكاد أن يكون غير منقطع في تقنيات الإنتاج، وهذه الظاهرة ما هي
إلاّ نتاج فرعي للسياق نحو التسلح الدائم، وللحرب الباردة التي فرضت علينا منذ
نهاية الحرب العالمية الثانية.
وفعلا
فإننا إذا تفحصنا بانتباه 99% من التحولات التي أصابت التقنيات المطبقة الإنتاج،
نجد أن منشأها عسكري، إذن فأنتم ترون أننا إزاء نواتج، فرعية للتقنيات الجديدة
التي تطبق الأول على الصعيد العسكري، وتجد من ثم بعد فترة تطول أو تقصر، تطبيقا
لها على الصعيد الإنتاجي، بقدر ما تصبح في متناول الجميع.
هذه
الواقعة صحيحة بحيث يستخدمها اليوم في فرنسا حجة رئيسية أنصار القوة الضاربة
الفرنسية، الذين يقولون أن فرنسا إذا لم تبن هذه القوة الضاربة فإنها لن تعرف
التقنية التي ستقرر خلال خمس عشر أو عشرين عاما جزءا هاما من الأساليب الإنتاجية
الصناعية، أي كل النواتج الفرعية للتقنيات الذرية والتقنيات المرتبطة بها على
الصعيد الصناعي.
لن أجادل
هنا حول هذه النظرية التي أعتبرها غير مقبولة أصلا، كل ما أريد إبرازه هو أنها
تؤكد بشكل "متطرف" تماما أن معظم الثورات التقنية التي نشهدها في مجال
الصناعة والتقنية الإنتاجية بشكل عام هي نتاجات فرعية الثورات التقنية في المجال
العسكري.
وبقدر ما
تستمر الحرب الباردة الدائمة، تتسم بالبحث الدائب عن تحويل تقني في مجال التسليح،
فإننا نجد عاملا جديدا ومصدرا فوق اقتصادي إذا صح التعبير يغذي التحولات المستمرة
في التقنية الإنتاجية. في الماضي حين لم يكن من وجود لهذا الإستقلال في البحث
التقني، حين كان البحث التقني من شأن المنشآت الصناعية أساسا، كان ثمة سبب رئيسي
لتحديد سير دوري لهذا البحث، كان يقال: ينبغي الآن التباطؤ في الاختراعات، لأن
لدينا منشئات مكلفة جدا، وينبغي البدء بإطفاء كلفها، ينبغي أن تصبح مجزية، ولن
نغطي تكاليف تأسيسها قبل الانطلاق في مرحلة جديدة من التحويل التقني.
إن هذا
صحيح، بحيث إن ثمة اقتصاديين، من أمثال شومبيتر، قد أقاموا تفسيرهم الأساسي لتعاقب
موجات التوسع طويل المدى، أو موجات الركود طويلة المدى، على هذا النسق الدوري
للثورات التقنية.
إن هذا
الحافز الاقتصادي لا يؤثر اليوم بنفس الشكل. فعلى الصعيد العسكري ليس ثمة سبب
مقبول لوقف البحث أسلحة جديدة. بالعكس ثمة خطر دائم في أن يحد الخصم سلاحا جديدا
قبل أن نصل نحن إليه. فهناك إذن حافز حقيقي للبحث الدائم، بلا انقطاع، وعمليا دون
اعتبار العامل الاقتصادي (على الأقل فيما يخص الولايات المتحدة). مما يعني أننا
نشهد مرحلة تحويل تقني غير منقطع حقا في مجال الإنتاج. وليس عليكم إلاّ أن تعيدوا
إلى أذهانكم ما جرى خلال فترة الـ 10-15 سنة الماضية حتى يبرز أمامكم هذا التحول،
هذه الثورة التقنية غير المنقطعة: بدءا من تحرير الطاقة الذرية، وعبر الأتمتة،
ونحو الآلات الحاسبة الإليكترونية، والتمنمة la
miniatirisation ،
وأشعة ليزر، ومجموعة أخرى من الظاهرات.
بيد أن
الحديث عن الثورة التقنية غير المنقطعة، هو حديث عن اختصار (اختزال)، عن تقصير
فترة تجديد رأس المال الثابت. وهذا يفسر لنا توسع على المقياس العالمي، وهو يتحدد
أساسا -شأنه شأن كل توسع طويل المدى في النظام الرأسمالي- بحجم الاستثمارات
الثابتة، كما يفسر لنا تقصير مدة الدورة الاقتصادية الأساسية، مدة تحددها هي أيضا
مدة عمل رأس المال الثابت. ويقدر ما يتجدد رأس المال الثابت هذا بتنسيق متسارع فإن
مدة الدورة تقصر هي أيضا. لم نعد نواجه أزمات كل سبع أو عشر سنوات، غير أننا نواجه
فترات ركود كل 4-5 سنوات، أي أننا دخلنا مرحلة تتعاقب فيها الدورات بسرعة أكبر
ولمدة أقصر بكثير من الدورات السابقة لمرحلة ما قبل الحرب العالمية الثانية.
وأخيرا،
في ختام هذا التحليل للشروط التي تنمو فيها الرأسمالية الجديدة المعاصرة، فقد حدث
تغير هام نوعا ما، على مقياس العالم، في الشروط التي توجد فيها وتنمو الرأسمالية.
فهناك من
جهة توع المعسكر المسمى اشتراكيا، وهناك من جهة أخرى ثورة المستعمرات. ولئن كانت
حصيلة تعزيز المعسكر المسمى اشتراكيا هي فعليا خسارة من وجهة نظر الرأسمالية
العالمية -يمكن القول خسارة مواد أولية، وجسارة منافذ التصريف، خسارة في جميع
المستويات-فإن حصيلة ثورة المستعمرات - مهما بدا في ذلك من المفارقة- ليست بخسارة
جوهرية لحقت بالعالم الرأسمالي. بل بالعكس، فإن أحد العوامل المتلازمة التي تفسر
ضخامة التوسع الإقتصادي للبلاد الإمبريالية، الذي نشهده في هذه المرحلة، هو أن
ثورة المستعمرات- (الثورة الكولونيالية)بالقدر الذي تستمر في إطار السوق العالمية
الرأسمالية (باستثناء حالة نشوء دول حديثة اشتراكية) تشكل حافزا لإنتاج وتصدير سلع
التجهيز ومنتجات الصناعة الثقيلة من قبل البلدان الإمبريالية. أي أن تصنيع البلاد
المتخلفة، الكولونيالية الجيدة، ونمو برجوازية جديدة في البلاد الكولونيالية، هو
دعامة أخرى، إلى جانب الثورة التقنية، للاتجاه التوسعي طويل المدى للبلدان الرأسمالية
المتقدمة، إذ تترتب عليها في النهاية نفس النتائج، فتفضي هي أيضا إلى تزايد لنتاج
الصناعات الثقيلة وصناعات التشييد الميكانيكي وصناعة مصانع الآلات. إن جزءا من هذه
الآلات يستخدم من أجل التجديد المتسارع لرأس المال الثابت في البلاد الرأسمالية
المتقدمة، في حين أن الجزء الآخر يستخدم في تصنيع، في تجهيز البلاد المتخلفة
المستقلة حديثا.
على هذا
النحو نستطيع إدراك خلفية تجربة الرأسمالية الجديدة هذه التي نعيشها، خلفية توسع
طويل المدى للرأسمالية، فترة أعتقد أنها محدودة في الزمن، شأنها شـأن الفترات
المماثلة في الماضي (لا أعتقد أبدا أن فترة التوسع هذه ستستمر إلى ما لا نهاية وأن
الرأسمالية قد وجدت الحجر السحرية التي تمكنها من توقي لا الأزمات وحسب، بل وتعاقب
الدورات الطويلة المدى من توسع وركود نسبي) هي التي تطرح أمام الحركة العمالية في
أوروبا الغربية المشكلات الخاصة بهذا التوسع.
ولنتساءل
الآن عن الخصائص الأساسية لتدخل السلطات العامة في الإقتصاد الرأسمالي؟
3- أهمية نفقات التسلح
إن
الظاهرة الموضوعية الأولى التي تسهل إلى حد يعيد تدخل السلطات العامة بشكل متزايد
في الحياة الإقتصادية للبلاد الرأسمالية، هي دوام الحرب الباردة، واستمرار سياق
التسلح إذ أن من يقول بدوام الحرب الباردة، واستمرار سياق التسلح، واستمرار موازنة
عسكرية مرتفعة جدا، إنما يقول رقابة الدولة على جزء هام من الدخول القومي. وإذا
قارنا اقتصاد سائر البلاد الرأسمالية المتقدمة في الوقت الراهن باقتصاد تلك الدول
الرأسمالية كلها لما قبل الحرب العالمية الأولى، فإننا نلاحظ مباشرة التغيير
البنيوي الهام جدا الذي حصل، بصرف النظر عن أي اعتبار نظري أو أي بحث نظري، إنه
نتيجة تضخم الميزانية العسكرية التي لم تكن تلهم فبل 1914 أكثر من 5%، 6%، 4%، 7%،
من الدخول القومي، بينما تمثل في ميزانية الدول الرأسمالية المعاصرة 15%، 20%،
25%، بل وفي حالات معينة 30% من الدخل القومي.
وهكذا
منذ البدء، وبصرف النظر عن أي اعتبار على صعيد نذهب التدخل الإقتصادي، فإن الدولة
تراقب إذن، بحكم تضخم نفقات التسلح الدائم، جزءا هاما من الدخل القومي.
لقد ذكرت
أن هذه الحرب الباردة ستستمر فترة طويلة. إنني مقتنع بذلك شخصيا إنها مستمرة لأن
التناقض الطبقي بين المعسكرين المتواجهين على المقياس العالمي مستمر، لأنه ما من
سبب منطقي يمكن أن يستشف منه، في أجل قصير أو متوسط، نزع سلاح طوعي تقوم به
البرجوازية الدولية أمام الخصوم الذين تواجههم على المقياس العالمي، أو إتفاقا بين
الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة يتيح فجأة تخفيض نفقات التسلح هذه بنسبة
النصف أو الثلثين أو ثلاثة أرباع.
إننا
ننطلق إذن من هنا: نفقات تسلح دائمة، تتجه إلى التزايد حجما وأهمية بالنسبة للدخل
القومي، أو أني الثبات على الأقل، أي أن تزيد بنسبة التوسع المستمر للدخل القومي
في هذه المرحلة. وبحكم هذا التوسع والنفقات العسكرية يتضح المركز الهام الذي تحتله
السلطات العامة في الحياة الإقتصادية.
لعلكم
اطلعتم على المقال الذي نشره "بيير نافيل" في "المجلة الماركسية
الجديدة" منذ سنوات. لقد أثبت فيه مجموعة من الأرقام قدمها مقرر الميزانية
(الفرنسية) عام 1956، تدل على الأهمية العملية للنفقات العسكرية لمجموع صناعات فرع
صناعي. إن هناك فروعا صناعية عديدة من أهم الفروع، منها الفروع
"الرائدة" التقدم، تعمل بشكل أساسي لتلبية طلبات الدولة، ويحكم عليها
بالموت السريع إذا إنعدمت طلبات الدولة هذه: الملاحة الجوية، الإليكترون، البناء
البحري، المواصلات السلكية بل والهندسة المدنية، دون أن ننسى الصناعة الذرية. ولا
يختلف الأمر عن ذلك في الولايات المتحدة، ولكن بما أن الفروع الرائدة فيها هي أكثر
تطورا، والاقتصاد الأمريكي أكثر اتساعا، لذا فإن اقتصاد مناطق بكاملها يتمحور على
هذه الفروع. ويمكن القول أن كاليفورنيا، وهي أكبر الولايات توسعا، تعيش إلى حد
كبير على الميزانية العسكرية للولايات المتحدة. وإذا كان على هذا البلد أن ينزع
سلاحه ويبقى رأسماليا فإن ذلك يعني كارثة لولاية كاليفورنيا التي تقوم فيها صناعة
الصواريخ وصناعة الطيران العسكري والصناعة الإليكترونية. ولا حاجة بنا لرسم لوحة
لتوضيح النتائج السياسية لمثل هذا الوضع الخاص على موقف السياسيين البرجوازيين في
كاليفورنيا. إنكم لن تجدوهم أبدا في طليعة المناضلين من أجل نزع السلاح!
وظاهرة
ثانية تبدو للوهلة الأولى متناقضة مع الأولى: توسع ما يسمى بالنفقات الإجتماعية،
لكل ما يتصل عن قريب أو بعيد بالتأمينات الإجتماعية، وهي نفقات ترتفع باستمرار في
الميزانيات العامة بشكل عام، وبخاصة في الدخل القومي، منذ 25-30 عاما.
4- كيف "تُطلق" الأزمات وتُحول إلى ركود؟
إن تزايد
التأمينات الإجتماعية ينجم عن ظواهر متلازمة عديدة. هناك أولا ضغط الحركة
العمالية، التي تنشد على الدوام تخفيف واحدة من أبرز خصائص الوضع البروليتاري: عدم
استقرار المعيشة. فما دامت قيمة قوة العمل لا تغطي على العموم إلاّ الحاجات
المتعلقة بتجديدها الجاري، فإن أي انقطاع (توقف) في بيع قوة العمل هذه، بمعنى أي
حادث يمنع العامل من العمل بشكل عادي -البطالة أو المرض أو العجز والشيخوخة- يلقى
بالعامل في هاوية البؤس. في بداية النظام الرأسمالي لم يكن العامل بلا عمل يستطيع أن
يتوجه، عندما يعاني ضيقا، إلاّ إلى "الإحسان"، الإحسان الخاص أو العام،
مع نتائج مادية ضئيلة تقترن بجرح رهيب لكرامته الإنسانية. وشيئا فشيئا فرضت الحركة
العمالية مبدأ "التأمينات الإجتماعية" الطوعي أولا، ثم الإلزامية، ضد
طوارئ القدر: تأمين ضد المرض، تأمين ضد البطالة، تأمين الشيخوخة. وانتهى هذا
النضال أخيرا إلى مبدأ "الضمان الإجتماعي" الذي يفترض فيه نظريا أن يغطي
العامل المأجور ضد كل خسارة في الأجر الجاري.
وفي ذلك
أيضا نوع من المصلحة للدولة. إن الصناديق التي تتجمع فيها المبالغ الهامة التي
تستخدم لتمويل هذا الضمان الاجتماعي غالبا ما تملك رؤوس أموال سائلة هامة. ويمكنها
أن توظف رؤوس الأموال هذه في خزينة الدولة، أي إقراضها للدولة (مبدئيا لأجل قصير).
وقد طبق النظام النازي هذا النظام، ومنه انتشر إلى أغلب البلاد الرأسمالية.
وفضلا عن
ذلك فإن التضخم المتزايد الأهمية لأموال الضمان الإجتماعي هذه أفضى إلى وضع خاص
يطرح على الحركة العمالية مسألة نظرية وعملية. إن الحركة العمالية تعتبر بحق أن
مجموع الأموال المدفوعة إلى الضمان الإجتماعي -سواء من قبل أرباب العمل أو
المحسومة من أجور العمال أنفسهم- يكون مجرد جزء من الأجر، "أجر غير مباشر"
أو "أجر مؤجل". وهذه هي وحدها وجهة النظر المعقولة، التي تتمشى كذلك مع
النظرية الماركسية في القيمة، إذ ينبغي أن نعتبر كثمن لقوة العمل مجموع المكافأة
التي ينالها العامل مقابل قوة عمله، ولا يهمنا في شيء إن تدفع له فورا (الأجرة
المباشرة)، أو بعد (أجر مؤجل). لهذا السبب ينبغي اعتبار الإدارة المشتركة الدائمة
على المساواة والتمثيل (نقابات-أرباب عمل أو نقابات-دولة) لصناديق الضمان
الإجتماعي انتهاكا لحق من حقوق العمال. فما دامت أموال هذه الصناديق ملكا للعمال
وحدهم، فإن أي تدخل من قوى اجتماعية غير النقابات ينبغي رفضها. ينبغي على العمال
أن لا يقبلوا بعد اليوم بـ"الإدارة المشتركة" لأجورهم، كما لا يقبل
الرأسماليون بالإدارة المشتركة لحساباتهم في المصارف…
بيد أن
تضخم المبالغ المدفوعة للضمان الإجتماعي أدى إلى إيجاد نوع من "التوتر"
بين الأجر المباشر والأجر المؤجل، إذ بلغ هذا الأخير أحيانا 40% من مجموع الأجر.
إن أوساطا نقابية عديدة تعارض في أية زيادة جديدة في "الأجور المؤجلة"
وتريد أن تحصر أية فائدة جديدة في الأجر المباشر وحده الذي يتلقاه العامل. ولكن
علينا أن نفهم أن وراء واقعية "الأجر المؤجل" و"الضمان
الإجتماعي" يختفي مبدأ التضامن الطبقي. وفعلا فإن صناديق المرض والطوارئ
العمل، الخ، لا يقوم على مبدأ "الإسترداد الفردي" (بمعنى أن يسترد كل
واحد في النهاية كل ما دفعه أو ما دفعه رب العمل أو الدولة من أجله) بل على مبدأ
الضمان، أي المتوسط الحسابي للمخاطر. أي مبدأ التضامن: أن يدفع أولئك الذين لم
يتعرضوا للطوارئ لكي يتمكن من تعرضوا للطوارئ من تغطية إنفاقهم كله. إن المبدأ
الذي يكمن وراء هذا التعامل هو مبدأ التضامن الطبقي، أي مصلحة العمال في توقي قيام
بروليتاريا دنيا sous-proletariat، لا تضعف نضال كتلة الشغيلة فحسب (إذ يخشى كل فرد أن يهوي آجلا أم
عاجلا إلى صف البروليتاريا الدنيا) بل وتهدد بمنافستها وبالضغط على الأجور أيضا.
في هذه الظروف ينبغي علينا بدلا من أن نشكو من التضخم "المفرط" في الأجر
المؤجل، ان نكشف قصوره الصارخ، بحيث أن معظم العمال الشيوخ يشهدون، حتى في أكثر
البلاد الرأسمالية ازدهارا، إنهيارا مريعا في مستوى حياتهم.
إن الرد
الفعال على مسألة "التوتر" بين الأجر المباشر والأجر غير المباشر، هو في
المطالبة بإحلال مبدأ التضامن الواسع ليشمل جميع المواطنين محل التضامن المحدود
القاصر على طبقة الشغيلة وحدها، أي تحويل الضمان الإجتماعي إلى خدمات قومية (الصحة
والاستخدام الكامل والشيخوخة) تمويل بالضريبة التصاعدية على الدخول. على هذا النحو
فقط يمكن لنظام "الأجور المؤجلة" أن تؤدي إلى رفع حقيقي هام للأجور وإلى
إعادة توزيع حقيقية للدخل القومي لصالح المأجورين.
وينبغي
أن نعترف أن هذا لم يتحقق أبدا، حتى الآن، على مقياس واسع في النظام الرأسمالي، بل
ينبغي أن نتساءل ما إذا كان تحقيق ذلك ممكنا دون أن يؤدي إلى رد فعل رأسمالي بحيث
نجد أنفسنا بسرعة في مرحلة أزمة ثورية. إنه لواقع أن أهم تجارب الضمان الإجتماعي،
كتلك التي تحققت في فرنسا بعد عام 1944 وبصورة خاصة الخدمات القومية الصحية في
بريطانيا العظمى بعد عام 1945، قد حولت عن طريق فرض الضريبة على العمال أنفسهم
أكثر بكثير من فرض الضريبة على البرجوازية (بخاصة عن طريق تشديد عبء الضرائب غير
المباشرة التي تنصب على الأجور، حتى المتواضع منها، كما هو الحال في بلجيكا). لهذا
السبب لم نشهد أبدا في النظام الرأسمالي توزيع حقيقية وجذرية للدخل القومي عن طريق
الضريبة، وهي "أسطورة" من أساطير المذهب الإصلاحي.
هناك
أيضا وجه آخر للأهمية المتزايدة "للأجر المؤجل"، الضمان الإجتماعي، في
الدخل القومي للبلدان الرأسمالية المصنعة: هو بالذات صفتها المضادة لاحتمالات
الأزمة الدورية. إننا نجد هنا سببا آخر يجعل من مصلحة الدولة البرجوازية، من مصلحة
الرأسمالية الجديدة، تضخيم حجم هذا الأجر المؤجل". ذلك أنه يلعب دور مختلف
الصدمات، إذ يحول دون وقوع انهيار سريع وقوي في الدخل القومي في حالة أزمة.
لقد كان
العامل، في الماضي، عندما يفقد عمله ينخفض دخله إلى الصفر. وحين يكون ربع اليد
العاملة في بلد ما عاطلا، فإن دخول المأجورين- المستخدمين تنخفض بصورة آلية بمقدار
الربع. وكثيرا ما دُرست النتائج الرهيبة المقترنة على هذا الانخفاض في الدخول،
لهذا الانخفاض في "الطلب الإجمالي"، على مجموع الإقتصاد الرأسمالي. لقد
كانت تسبغ على الأزمة الرأسمالية مظهر رد فعل بتسلسل يتضخم بمنطق وحتمية رهيبين.
لنفترض
أن الأزمة وقعت في قطاع يصنع سلع تجهيز، وأن هذا القطاع اضطر إلى إغلاق مشروعات،
وتسريح عمالها. إن الخسارة التي الحق هؤلاء بفقدان دخولهم تقلص جذريا مشروعاتهم من
السلع الاستهلاكية. وتبعا لذلك تصل بسرعة إلى فرط إنتاج في القطاع الذي ينتج سلعا
استهلاكية، فيجد نفسه بدوره مضطرا إلى إغلاق مشروعات وتسريح العمال. وبذلك تخفض
مبيعات السلع الاستهلاكية من جديد، ويتراكم المخزون. وفي الوقت ذاته وبسبب العبء
الذي تتوه به المعامل المنتجة للسلع الاستهلاكية فإنها ستقلص أو تلغي الطلبات التي
عقدتها لشراء سلع تجهيز، مما سيؤدي إلى إغلاق مشروعات جديدة في الصناعة الثقيلة،
أي تسريح عدد إضافي من العمال، أي انخفاض جديد في القوة الشرائية لسلع الاستهلاك،
وبالتالي تفاقم الأزمة في قطاع الصناعة الخفيفة، مما يفضي بدوره إلى تسريحات
جديدة، وهكذا…
بيد أنه
منذ أقيم نظام فعال للتأمين ضد البطالة، فإن هذه الآثار المتراكمة للأزمة يتم
امتصاصها: وبقدر ما تكون فاتورة البطالة مرتفعة بقدر ما يجري امتصاص الأزمة.
لنعد إلى
الوصف الذي قدمنا لبداية الأزمة. إن القطاع المنتج لسلع التجهيز يشهد فرط إنتاج
ومضطر إلى تسريح عمال. ولكن ما أن يرتفع علاوة البطالة إلى 60% من الأجر مثلا حتى
لا يعود هذا التسريح يعني إلغاء كل دخول هؤلاء العاطلين عن العمل، بل مجرد تقليص
هذا الدخول بنسبة 40%. إن وجود 10% من العاطلين في بلد لم يعد يعني إنهيار 10% من
الطلب الإجمالي، بل 4% وحسب، و25% من العاطلين لا تؤدي إلاّ إلى تخفيض الدخول
بنسبة 10%، كما أن الأثر التراكمي الذي يؤدي إليه هذا التخفيض (والذي يحسب في
العلم الإقتصادي الجامعي بتطبيق المضاعف على التخفيض الذي يؤدي إليه في الطلب)
يتقلص على نفس المتوالي، وبذلك فإن مبيعات السلع الاستهلاكية ستنخفض بنسبة أقل
بكثير، ولن تمتد الأزمة بنفس القوة إلى قطاع السلع الاستهلاكية، وبالتالي يكون عدد
العمال الذين يسرحهم هذا القطاع أقل بكثير، كما يمكنه أن يلاحظ على جزء من الطلبات
لشراء السلع الاستهلاكية..الخ. وبكلمة مختصرة فإن الأزمة تكف عن التوسع بشكل
حلزوني (لولبي)، لقد "لجمت" في منتصف الطريق. وما يسمى
"ركودا" اليوم ليس سوى أزمة رأسمالي تقليدية "مكبوحة" بتأثير
التأمينات الإجتماعية بشكل خاص.
لقد
أوردت في مؤلفي "النظرية الماركسية في الإقتصاد" مجموعة من المعطيات
تتعلق بفترات الركود الأمريكية الأخيرة تؤيد بصورة تجريبية هذا التحليل النظري،
ويبدو فعلا، تبعا لهذه الأرقام، أن بداية فترتي ركود 1953 و1957 كانت بادية
للعيان، وبحجم يمكن مقارنته من كل الزوايا بأخطر الأزمات الرأسمالية السابقة (1929
و1938). بيد أن ركود 1953 و1957 خلافا لأزمتي ما قبل الحرب العالمية الثانية، توقف
عن التضخم بعد عدد من الشهور، أي أنه كبح في منتصف الطريق ثم أخ1 في الضمور. ونحن
ندرك الآن واحدا من الأسباب الأساسية لتحول الأزمات إلى ركود.
إن تضخم
الميزانية العسكرية، إذا نظر إليه من زاوية توزيع الدخل القومي بين رأس المال
والعمل، يترتب عليه مفعول مناقض لمفعول تضخم "الأجر المؤجل" إذ مهما يكن
فإن جزءا من هذا الأجر مصدره دوما مدفوعات إضافية من البرجوازية. أما من زاوية
المفاعيل المضادة لاحتمالات الأزمة الدورية، فإن تضخم الميزانية العسكرية
(والنفقات العامة بوجه عام) وتضخم الضمان الإجتماعي يلعبان دورا واحدا في
"كبح" عنق الأزمات، وفي إعطاء الرأسمالية الجديدة واحدا من مظاهرها
الخاصة.
إن الطلب
العام يمكن تقسيمه إلى فئتين: طلب على السلع الاستهلاكية وطلب على السلع الإنتاجية
(سلع التجهيز). وتضخم أموال التأمينات الإجتماعية يتيح توقي انهيار مفاجئ في نفقات
(طلب) السلع الاستهلاكية، بعد بدء الأزمة. وتضمن النفقات العامة (بخاصة النفقات
العسكرية) يتيح توقي انهيار مفاجئ في نفقات (طلب) سلع التجهيز. وهكذا تعمل هذه
السمات المتميزة للرأسمالية الجديدة، في القطاعين، لا من أجل إلغاء تناقضات
الرأسمالية -إذ تنفجر الأزمات كما في السابق، ولم تجد الرأسمالية وسيلة تؤمن بها
نموا غير منقطع، متناسقا إلى حد كبير أو ضئيل- بل من أجل تقليص حجم هذه التناقضات
وتخفيف خطورتها (مؤقتا على الأقل في إطار فترة طويلة المدى من النمو المتسارع وعلى
حساب تضخم دائم).
تعليقات: 0
إرسال تعليق