-->

نظرية القيمة و فائض القيمة (2/2)

 نظرية القيمة وفائض القيمة 



5- تحديد قيمة تبادل السلع


                    
عندما ندرك بدقة أن إنتاج السلع وتبادلها ينتظمان ويتعممان في مجتمع كان يقوم على اقتصاد مبني على زمن العمل، على محاسبة مبنية على ساعات العمل، نفهم لماذا بني تبادل السلع، بحكم نشأته وطبيعته الخاصة، على هذه المحاسبة القائمة على ساعات العمل ذاتها وأن القاعدة العامة التي تتبع هي إذن التالية: إن قيمة تبادل سلعة ما تتحدد بكمية العمل اللازم لإنتاجها، وتقاس كمية العمل هذه بمدة العمل التي تم إنتاج السلع خلالها.
هذا التعريف العام الذي يكون نظرية القيمة-العمل، وأساس الاقتصاد السياسي الكلاسيكي البرجوازي بين القرن السابع عشر ومطلع القرن التاسع عشر، من ويليام بيسي إلى ريكاردو، وأساس النظرية الاقتصادية الماركسية، التي إستندت إلى نظرية القيمة-العمل ذاتها، وعملت على تحسينها- هذا التعريف ينبغي أن يضاف إليه بعض التحديدات.
التحديد الأول:إن بني البشر لا تتوافر لهم جميعا نفس القدرة على العمل، فهم لا يملكون نفس الطاقة، ولا يملكون جميعا نفس المهارة في مهنتهم. ولو أن قيمة تبادل البضائع كانت تتوقف على كمية العمل وحدها التي ينفقها الفرد، أي المبذولة فعلا من قبل كل فرد لإنتاج سلعة،لانتهينا إلى وضع غير معقول: إذ بقدر ما يكون المنتج عابثا أو عاجزا تزداد ساعات العمل التي ينفقها لإنتاج زوج من الأحذية وتكون قيمة هذا الزوج من الأحذية أكبر! بداهة هذا مستحيل لأن قيمة التبادل ليست مكافأة معنوية على النيات! إنها رابطة موضوعية قائمة بين منتجين مستقلين لتأمين المساواة بين جميع المهن، في مجتمع يقوم بآن واحد على تقسيم العمل وعلى اقتصاد مبني على زمن العمل. في مثل هذا المجتمع يكون تبديد العمل أمرا لا يمكن مكافأته، بل على العكس يعاقب عليه بصورة آلية. وكل من ينفق في سبيل إنتاج زوج من الأحذية عددا من ساعات العمل يفوق المتوسط الضروري -هذا المتوسط الضروري تحدده متوسط إنتاجية العمل ومسجل مثلا في مواثيق المهن- إنما يبدد عملا بشريا، لقد عمل عبثا، بخسارة بحتة، خلال عدد من ساعات العمل هذه، ولن يتلقى شيئا مقابل هذه الساعات المهدورة.
وبعبارة أخرى: إن قيمة تبادل بضاعة ما تتحدد لا بكمية العمل المبذولة لإنتاج هذه السلعة من قبل كل منتج فردي، بل بكمية العمل الضرورية اجتماعيا لإنتاجها. وتعبير "الضرورية اجتماعيا" ينصرف إلى :كمية العمل الضرورية في الشروط المتوسطة لإنتاجية العمل في زمن معين وفي بلد معين.
وفضلا عن ذلك فإن لهذا التحديد أهمية بالغة من حيث التطبيق عندما نتفحص عن قرب اكثر آلية المجتمع الرأسمالي.
بيد أنه لابد من تحديد آخر: ماذا يعني تعبير"كمية العمل" بالضبط. هناك عمال ذوو مهارات متباينة. فهل ثمة تكافؤ كلي بين ساعة عمل كل واحد منهم، بصرف النظر عن هذا الاختلاف في المهارات؟ ومرة أخرى ليس الأمر مسألة أخلاقية، بل مسألة منطق داخلي، في مجتمع يقوم على المساواة بين المهن، يقوم على المساواة في السوق، وأية شروط لعدم المساواة فيما بينها تخل مباشرة بالتوازن الإجتماعي.
ما الذي يحدث مثلا لو أن ساعة عمل العامل اليدوي لم تكن قيمتها تقل عن قيمة ساعة عمل العامل المتخصص المؤهل، اقتضى تأهيله أربع أو ست سنوات؟ لن يرغب أحد بطبيعة الحال في التخصص. فساعات العمل المبذولة لاكتساب التخصص (المهارة) تصبح ساعات عمل أنفقت عبثا، بخسارة بحتة، لن ينال المتمرن الذي أصبح عاملا ماهرا لقاءها أي مقابل.
ولكي يرغب الأحداث بالتخصص في اقتصاد يقوم على محاسبة مبنية على ساعات العمل ينبغي أن يكافأ الزمن الذي ضيعوه في اكتساب تأهيلهم، ينبغي أن ينالوا عوضا لقاء هذا الزمن. ولهذا ينبغي إكمال تعريفنا لقيمة تبادل بضاعة ما على النحو التالي: "إن ساعة عمل لعامل مؤهل ينبغي اعتبارها عملا مركبا، أي ساعة عمل العامل اليدوي مضاعفة، ومعامل الضرب هذا ليس أمرا تعسفيا، بل يقوم ببساطة على تكاليف اكتساب المهارة. ولنقل بصورة عابرة أنه كان في الاتحاد السوفييتي في العهد الستاليني، دوما، شيء من الغموض في تفسير العمل المركب، وهو غموض قليل الشأن لم يصحح منذ ذلك الحين. وما يزال يقال في الاتحاد السوفييتي إن مكافأة العمل ينبغي أن تتم على أساس كمية العمل المبذولة ونوعيته، إلاّ أن فكرة النوعية لا تؤخذ بمدلولها الماركسي، أي نوعية يمكن قياسها كميا بواسطة معامل ضرب معين. وعلى العكس فإن هذه الفكرة تستخدم بمدلولها الأيديولوجي البرجوازي، بحيث تتحدد نوعية العمل بمنفعتها الاجتماعية المزعومة، وعلى هذا النحو يتم تبرير الدخول التي يكسبها مشير أو راقصة أولى أو مدير مؤسسة، وهي دخول تفوق عشرة أضعاف دخول العامل اليدوي. إنها نظرية دفاع لتبرير التفاوتات الكبيرة جدا في المكافآت، وهي تفاوت وجدت في العهد الستاليني وما تزال مستمرة أيضا، وإن يكن في حدود أضيق في الوقت الراهن، في الاتحاد السوفييتي.
إن قيمة تبادل بضاعة ما تتحدد إذن بكمية العمل الضروري اجتماعيا لإنتاجها، مع اعتبار العمل المؤهل كمضاعف العمل البسيط، أي مضروبا بمعامل يمكن قياسه بدرجات متفاوتة الدقة.
ذلك هو قلب النظرية الماركسية في القيمة، وهو أساس النظرية الاقتصادية الماركسية كلها بشكل عام. وعلى النحو ذاته، فإن نظرية فائض الناتج الاجتماعي وفائض العمل، التي تحدثنا عنها في مستهل هذا العرض، تكوّن أساس السوسيولوجيا الماركسية كلها، والجسر الذي يربط بين تحليل ماركس السوسيولوجي والتاريخي، ونظريته في الطبقات وتطور المجتمع بشكل عام، بالنظرية الماركسية الاقتصادية، وبالأحرى بتحليل المجتمع السلعي السابق للرأسمالية والرأسمالية وما بعد الرأسمالي.

6- ما هو العمل الضروري اجتماعيا؟


ذكرت لكم قبل قليل أن التعريف الخاص لكمية العمل الضرورية اجتماعيا لإنتاج سلعة ما يجد تطبيقا خاصا جدا وبالغ الأهمية في تحليل المجتمع الرأسمالي. ويبدو لي أن من الخير أن نعالج هذه المسألة، رغم أن مكانها هو في الحديث التالي، لو أننا اتبعنا الترتيب المنطقي.
إن مجموع السلع المنتجة في بلد ما في فترة معينة إنما تم إنتاجها بقصد إشباع حاجات مجموع أعضاء هذا المجتمع. ذلك أن بضاعة لا تسد حاجات أي شخص هي أساسا لا تقبل البيع، أي لا تكون لها أية قيمة في التبادل، إنها لا تكون سلعة بل مجرد حصيلة أهواء المنتج، أو اللعب بلا رغبة في الكسب. ومن جهة أخرى فإن مجموع القوة الشرائية الموجودة في مجتمع معين وزمن معين والمعدة للإنفاق في السوق، أي غير المكتنزة، ينبغي أن توجه لشراء مجموع هذه السلع المنتجة، إذا أريد قيام توازن اقتصادي في المجتمع. هذا التوازن يستلزم إذن أن يوزع مجموع الإنتاج الإجتماعي، مجموع القوى الإنتاجية المتاحة في المجتمع، أي مجموع ساعات العمل المتوافرة لهذا المجتمع، أن يوزع مجموعها بين مختلف الفروع الصناعية على أساس نسبي، على نحو ما يقوم به المستهلكون حين يوزعون قوتهم الشرائية بين مختلف الحاجات التي يمكنهم إشباعها. وعندما لا يتطابق توزيع القوى الإنتاجية مع توزيع الحاجات هذا فإن التوازن الإقتصادي يختل، ويظهر فرط الإنتاج ونقص الإنتاج جنبا إلى جنب.
لنأخذ مثلا مألوفا إلى حد ما: حوالي منتصف القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، كان في مدينة مثل باريس صناعة العربات، ولصنع السلع المختلفة التي تتصل بالنقل بالعربات المجرورة، كان يعمل فيها ألوف، إن لم يكن عشرات الألوف من العمال.
وفي الوقت ذاته نشأت صناعة السيارات، وهي، رغم أنها كانت ما تزال صناعة صغيرة جدا، تضم عشرات من صانعي السيارات، ويعمل فيها حوالي عشرة آلاف من العمال.
ما الذي جرى في تلك الفترة؟ بدأ عدد العربات يضمحل وعدد السيارات يتزايد. ونحن نشهد إذن أن الإنتاج المتعلق بالنقل بالعربات يتجه إلى تجاوز الحاجات الإجتماعية، أي الطريقة التي يوزع بمقتضاها مجموع الباريسيين قوتهم الشرائية، كما نشاهد من جهة أخرى أن إنتاج السيارات ما يزال دون مستوى الحاجات الإجتماعية. فما أن قامت صناعة السيارات حتى انتقلت من القلة وتصاعدت حتى ثم التوصل إلى الإنتاج الكبير. لقد كان عدد السيارات المتاح أقل من المتطلبات الموجودة في السوق.
كيف نعبر عن هذه الظاهرة بمصطلحات نظرية القيمة-العمل؟ يمكن القول إنه ينفق في قطاعات صناعة النقل بالجر من العمل أكثر مما هو ضروري اجتماعيا، وإن جزءا من العمل الذي تقوم به مجموع مشروعات صناعة النقل بالعربات هو عمل مهدور اجتماعيا، عمل لا مقابل له في السوق، عمل ينتج بالتالي سلعا لا تباع، وعندما توجد في المجتمع الرأسمالي سلع لا تباع، فمعنى ذلك أنه قد جرى تثمير عمل بشري في فرع من فروع الصناعة تكشف أنه ليس عملا ضروريا اجتماعيا، أي أن ليس ثمة قوة شرائية مقابلة له في السوق. والعمل غير الضروري اجتماعيا هو عمل مبدد، عمل لا ينتج قيمة. وهكذا نرى أن مفهوم العمل الضروري اجتماعيا يغطي مجموعة بكاملها من الظاهرات.
وفيما يتعلق بمنتجات صناعة النقل بالجر، يتجاوز العرض الطلب، فتنخفض الأسعار، وتبقى السلع دون مشترٍ. ويحصل العكس في صناعة السيارات. إذ أن الطلب يتجاوز العرض، ولهذا السبب ترتفع الأسعار، ولأنه يوجد قصور في الإنتاج. إلاّ أن الوقوف عند هذه المعلومات العادية حول العرض والطلب إنما يعني التوقف عند المظهر السيكولوجي والفردي للمسألة. وعلى العكس، إذا تعمقنا في دراسة مظهرها الجماعي والاجتماعي فإننا ندرك ما يكمن وراء هذه الظواهر، في مجتمع يقوم على اقتصاد مبني على زمن العمل. فحين يتجاوز العرض الطلب إنما يعني هذا أن الإنتاج الرأسمالي، وهو إنتاج فوضوي، إنتاج غير مخطط، غير منظم، قد ثمر عشوائيا، أي أنفق في فرع من فروع الصناعة عددا من ساعات العمل أكثر مما هو ضروري اجتماعيا، أي أنه قدم مجموعة من ساعات العمل بخسارة بحتة، أي بدد عملا بشريا، وأن هذا العمل البشري المهدور لن يلقى مكافأة له من المجتمع. وبالعكس، فإن فرعا من فروع الصناعة ما يزال الطلب عليه أكبر من العرض هو، إذا صح التعبير، فرع صناعي متخلف بالنسبة للحاجيات الاجتماعية، وهو بالتالي فرع صناعي أنفق فيه من ساعات العمل عدد أقل مما هو ضروري اجتماعيا، وهو لهذا السبب بالذات يتلقى من المجتمع علاوة لزيادة هذا الإنتاج ورفعه إلى حدود التوازن مع الحاجيات الاجتماعية.
ذلك هو مظهر من مظاهر مسألة العمل الضروري اجتماعيا في النظام الرأسمالي. أما المظهر الآخر فيتصل بحركة إنتاجية العمل. وهنا أيضا لا يختلف الأمر، إلاّ من حيث إغفال الحاجات الإجتماعية، وإغفال مظهر "قيمة استخدام" الإنتاج.
في النظام الرأسمالي تكون إنتاجية العمل في حركة دائمة. يوجد دوما، بوجه الإجمال، أنواع ثلاث من المشروعات (أو الفروع الصناعية) النوع الأول يقف في المستوى الإجتماعي المتوسط للإنتاجية، والنوع الثاني متأخر فات أوانه، فاقد التوازن، إنتاجيتها أدنى من المستوى الإجتماعي المتوسط؛ والنوع الثالث رائد من الناحية التقنية، وإنتاجيته أعلى من المستوى الاجتماعي المتوسط.
ما معنى قولنا إن فرعا أو مشروعا هو فرع أو مشروع متأخر تكنولوجيا، وإن إنتاجية العمل فيه دون متوسط إنتاجية العمل؛ يمكنكم تشبيه هذا الفرع أو المشروع بصانع الأحذية الذي تحدثنا عنه قبل قليل، أي أن فرعا أو مشروعا ينفق 5 ساعات عمل لإنتاج كمية يقتضي المتوسط الاجتماعي للإنتاجية أن تنتج في 3 ساعات عمل. فالساعتان الإضافيتان من العمل قد أنفقتا بخسارة بحتة، إنهما هذر العمل الإجتماعي، وتبديد لجزء من مجموع العمل المتاح للمجتمع، ولن يدفع المجتمع أي عوض لقاء هذا الجزء من العمل المهدور. وهذا يعني أن سعر البيع في هذه الصناعة أو المشروع التي تعمل دون متوسط الإنتاجية يقترب من سعر الكلفة أو أنه قد ينخفض إلى أقل من سعر الكلفة، أي أنها تعمل بمعدل ربح ضئيل جدا، بل وقد تعمل بخسارة.
وبالمقابل، فإن مشروعا أو فرعا صناعيا يتجاوز مستوى إنتاجية المتوسط (على شاكلة صانع الأحذية الذي يستطيع إنتاج زوجي أحذية في ثلاث ساعات، بينما يكون المتوسط الإجتماعي هو زوج من الأحذية في ثلاث ساعات)، إن هذا المشروع أو الفرع الصناعي يوفر في إنفاق العمل الاجتماعي، وسينال تبعا لذلك ربحا إضافيا، أي أن الفرق بين سعر البيع وسعر التكلفة سيكون أعلى من متوسط الربح.
إن السعي وراء هذا الربح الإضافي هو بالتأكيد محرك الاقتصاد الرأسمالي كله. إن كل مشروع رأسمالي يندفع بتأثير المنافسة إلى محاولة الحصول على مزيد من الأرباح، لأنه بذلك فقط يستطيع أن يحسّن باستمرار التكنولوجيا التي يتبعها، أي يحسن إنتاجية العمل لديه. إن المشروعات كلها تندفع إذن في هذا الطريق، مما يعني أن ما كان أولا إنتاجية فوق المتوسط سينتهي إلى أن يصبح إنتاجية متوسطة. وعند ذاك يتلاشى الربح الإضافي. إن كل استراتيجية الصناعة الرأسمالية تقوم على هذا الأساس، تقوم على رغبة كل مشروع في البلد في الوصول إلى إنتاجية فوق المتوسط، بغية الحصول على ربح إضافي، مما يسبب حركة تفضي إلى تلاشي الربح الإضافي بحكم الاتجاه إلى رفع متوسط إنتاجية العمل باستمرار. وبذلك نصل إلى تساوي معدل الربح.

7- أصل فائض القيمة وطبيعته


ولنتساءل الآن عن فائض القيمة. إذا نظرنا إليه من زاوية النظرية الماركسية في القيمة يمكننا منذ الآن الرد على هذا التساؤل. إن فائض القيمة ليس سوى الشكل النقدي لفائض الإنتاج الاجتماعي. أي الشكل النقدي لهذا الجزء من إنتاج الكادح، يتخلى عنه دون مقابل لمالك وسائل الإنتاج.
كيف يتم عمليا هذا التخلي في المجتمع الرأسمالي؟ إنه يتم عبر التبادل، كما هو شأن كل العمليات الهامة في المجتمع الرأسمالي، التي هي دوما علاقات تبادل. إن الرأسمالي يشتري قوة العمل من العامل، ويتملك، مقابل هذا الأجر، كل الإنتاج الذي يحققه هذا العامل، كل القيمة الجديدة المنتجة التي تتقمص في قيمة هذا الإنتاج.
وتبعا لذلك في وسعنا أن نقول أن فائض القيمة هو الفرق بين القيمة التي أنتجها العامل وقيمة قوة العمل الخاصة به. ما هي قيمة قوة العمل؟ إن قوة العمل هذه سلعة في المجتمع الرأسمالي، وقيمتها ـ شأن قيمة أية سلعة أخرى- هي كمية العمل الضروري اجتماعيا لإنتاجها وتجديدها، أي نفقات إعالة (صيانة) العامل بالمعنى الواسع للكلمة. إن مفهوم الحد الأدنى، من الأجر الضروري للحياة، ومفهوم الأجر المتوسط، ليس مفهوما جامدا. بل ينطوي على حاجات تتغير مع تقدم إنتاجية العمل، حاجات تتجه بصورة عامة إلى التزايد مع تقدم التقنية، ولا يمكن بالتالي المقارنة بينها في أزمان مختلفة. إذ لا يمكن إجراء مقارنة كمية بين الحد الأدنى من الأجر الضروري للحياة عام 1830 والحد الأدنى لعام 1960، وقد تعلم ذلك بعض نظريي الحزب الشيوعي الفرنسي على حسابهم. لا يمكن إجراء مقارنة صحيحة بين سعر دراجة نارية في عام 1960 وسعر عدد من كيلوات اللحم عام 1830 لنخلص إلى أن قيمة الدراجة اقل من قيمة كيلوات اللحم.
بعد أن عرفنا ذلك، نعود فنكرر أن نفقات صيانة العمل تكون إذن قيمة قوة العمل، وإن فائض القيمة يكون الفرق بين القيمة التي أنتجتها قوة العمل والنفقات اللازمة لصيانتها.
إن القيمة التي تنتجها قوة العمل يمكن قياسها فقط بمدة هذا العمل. وإذا عمل عامل 10 ساعات، فإنه يكون قد أنتج قيمة 10 ساعات عمل. وإذا كانت نفقات صيانة العامل تبلغ أيضا 10 ساعات عمل، فلن يكون ثمة فائض قيمة. وليس هذا إلا حالة خاصة لقاعدة أعم: ليس ثمة فائض إنتاج اجتماعي عندما يكون مجموع ناتج العمل مساويا للناتج الضروري لتغذية وبقاء المنتج.
بيد أن درجة إنتاجية العمل، في النظام الرأسمالي، هي بحيث أن نفقات إدامة العمل تكون دوما أدنى من كمية العمل الجديدة المنتجة. أي أن العامل الذي يعمل 10 ساعات لا يحتاج إلى ما يقابل 10 ساعات عمل للاستمرار في الحياة، تبعا لمتوسط حاجات الفترة التي يعيش فيها. وما يقابل الأجر لا يشكل دوما إلاّ جزءا فقط من يوم العمل، وفائض القيمة هو ما يفوق هذا الجزء، أي أنه العمل المجاني الذي يبذله العامل ويتملكه الرأسمالي دون أي مقابل. وأساسا لو لم يكن هذا الفرق موجودا لما استخدم أي رب عمل عاملاً، لأن شراء قوة العمل لن يجلب له آنذاك أي ربح.

8- صحة نظرية فائض القيمة


وفي الختام نورد ثلاثة براهين تقليدية على نظرية فائض القيمة.البرهان الأول تحليلي، أو، إذا شئتم، تحليل سعر كل سلعة إلى عناصرها الأساسية، الذي يبين أننا إذا تعمقنا بما يكفي فلن نجد إلاّ العمل.
إن سعر جميع السلع يمكن رده إلى عدد من العناصر: اهتلاك الآلات والأبنية، وهو ما نسميه تجديد رأس المال الثابت؛ ثمن المواد الأولية والمنتجات الثانوية المساعدة؛ الأجر؛ وأخيرا كل ما هو فائض قيمة: ربح، فوائد، إيجارات، ضرائب وسواها.
إننا نعلم، فيما يختص بالعنصرين الأخيرين:الأجر وفائض القيمة، أنها عمل وعمل بحت. وفيما يتعلق بالمواد الأولية، فإن معظم أثمانها يمكن رده إلى حد كبير إلى عمل خالص، وعلى سبيل المثال فإن أكثر من 60% من ثمن كلفة الفحم تتكون من أجور. وإذا حللنا، بداءة، متوسط أثمان كلفة البضائع إلى 40% أجور و20% فائض قيمة و30% مواد أولية و10% رأسمال ثابت، وافترضنا أن 60% من ثمن كلفة المواد الأولية يمكن ردها إلى عمل، يصبح 78% من مجموع أثمان الكلفة مرده إلى عمل. إن المتبقى من ثمن كلفة المواد الأولية يمكن رده إلى ثمن مواد أولية أخرى -ترتد بدورها إلى 60% عمل- وثمن اهتلاك الآلات. إن قيمة الآلات تنطوي في جزء هام منها على عمل (مثلا 40%) ومواد أولية (مثلا 40% أيضا). وبذلك ينتقل نصيب العمل في متوسط ثمن البضائع كلها على التوالي من 83% إلى 87% إلى 89.5%، الخ. ومن البديهي أننا كلما تابعنا هذا التحليل، اتجه الثمن كله إلى أن يرتد إلى عمل، وعمل وحسب.
أما البرهان الثاني فبرهان منطقي، وهو الذي نجده في مستهل مؤلف "رأس المال" لكارل ماركس، وقد التبس فهمه على عدد غير قليل من القراء، لأن ماركس لم يتبع بالتأكيد الأسلوب التربوي المبسط لمعالجة المسألة.
يطرح ماركس السؤال التالي: ثمة عدد كبير من السلع. هذه السلع يمكن تبادلها، مما يعني أنه ينبغي أن تتوافر فيها صفة مشتركة، لأن كل ما يمكن تبادله يمكن أن يُقارن، وكل ما يمكن أن يقارن ينبغي أن تتوافر له صفة واحدة مشتركة على الأقل. إن الأشياء، التي ليس لها صفة مشتركة هي بحكم تعريفها لا يمكن المقارنة بينها.
لننظر إلى كل من هذه السلع. ما هي صفاتها؟ إنها تنطوي أولا على جملة من الصفات الطبيعية: وزن، طول، كثافة، لون، عرض، طبيعة جزيئية، باختصار جميع الصفات الطبيعية، فيزيائية وكيماوية.. الخ. هل يمكن أن تقوم قابليتها للمقارنة باعتبارها سلعا على أساس واحدة ما من هذه الصفات المادية، هل يمكن لمثل هذه الصفة أن تكون المقياس المشترك لقيمتها في التبادل؟ من الواضح أن الجواب بالنفي لأن قيمة كيلو من السمن ليست مماثلة لقيمة كيلو من الذهب. هل هو الحجم؟ أم الطول؟ إن الأمثلة تبرهن مباشرة أن لا. الخلاصة أن كل ما هو صفة طبيعية لسلعة ما، كل ما هو صفة فيزيائية أو كيماوية لهذه السلعة، يحدد فعلا قيمة استخدامها، منفعتها النسبية، ولكن لا يحدد قيمتها في التبادل. إن قيمة التبادل ينبغي أن تصرف النظر عن كل ما هو صفة طبيعية، مادية السلعة.
ينبغي أن نجد في هذه السلع صفة مشتركة لا تكون مادية. ويخلص ماركس: إن الصفة المشتركة الوحيدة بين هذه البضائع، وهي صفة غير مادية، هي كونها جميعا منتجات العمل البشري، العمل البشري مأخوذا بالمعنى المجرد للكلمة.
إن العمل البشري يمكن النظر إليه بأسلوبين مختلفين. يمكن النظر إليه كعمل مشخص، نوعي: عمل الخباز، عمل الجزار، عمل الحذاء، عمل النساج، وعمل الحداد وسوى ذلك. بيد أننا ما دمنا نعتبره عملا نوعيا مشخصاً، فإنما ننظر إليه على وجه التحديد كعمل لا ينتج سوى قيم استخدام.
عند ذاك يؤخذ في نظر الاعتبار على وجه التحديد جميع الصفات التي هي مادية والتي لا يمكن المقارنة على أساسها بين السلع. إن الشيء الوحيد الذي تنطوي عليه السلع مما يمكن المقارنة بينها من وجهة نظر قيمة التبادل، هو أنها جميعا نتاج العمل البشري المجرد، بمعنى أنها نتاج منتجين، يرتبطون فيما بينهم بعلاقات تقوم على التكافؤ، مبنية على أنهم ينتجون جميعا سلعا من أجل التبادل. إن الصفة المشتركة بين السلع التي تمدنا بمقياس لقيمتها في التبادل، لإمكان تبادلها، هي إذن كونها حصيلة العمل البشري المجرد. إن نوعية العمل الضروري اجتماعيا لإنتاج السلع هي بالتالي التي تحدد قيمة تبادلها.
ولنضف مباشرة أن محاكمة ماركس هذه هي مجردة وصعبة إلى حد ما بآن واحد، وإنها تفضي إلى التساؤل حاول نقاد للماركسية، لا يقعون تحت حصر، استخدامه دون جدوى على أية حال!
هل حقا أن كون السلع نتاج العمل البشري المجرد هو الصفة المشتركة الوحيدة بينها، بصرف النظر عن صفاتها الطبيعية؟ لقد ظن عدد غير قليل من المؤلفين أنهم اكتشفوا صفات أخرى، ولكنهم انساقوا بشكل عام إلى أن ينتهوا إما إلى صفات مادية أو إلى كون البضائع نتاج العمل المجرد.
أما البرهان الثالث والأخير على صحة نظرية فائض القيمة، فهو البرهان بالاستحالة، وهو أكثر البراهين طرافة و"أحدثها".
لنتخيل لحظة مجتمعا اضمحل فيه العمل البشري الحي كليا، أي أن الإنتاج كله أصبح مؤتمتا 100%. ومن المفهوم أننا ما دمنا في مرحلة انتقالية وهي التي نشهدها حاليا، والتي يوجد فيها عمل مؤتمت كليا، أي أن بعض المعامل لا تستخدم عملا قط، بينما توجد معامل أخرى يستمر استخدام البشر فيها، فليس من مشكلة نظرية خاصة مطروحة، بل مجرد مسألة انتقال فائض القيمة من مشروع إلى آخر. إنها تطبيق لقانون تساوي معدل الربح الذي سندرسه في المرحلة الثانية.
ولكن لنتخيل هذه الحركة وقد وصلت إلى نتيجتها القصوى، فأصبح العمل البشري مستبعدا كليا من جميع أشكال الإنتاج، ومن جميع أشكال الخدمات. هل يمكن في هذه الشروط أن تستمر القيمة؟ ما الذي يكون عليه مجتمع ليس فيه شخص يكتسب دخولا، ولكن البضائع تبقى ذات قيمة وتباع؟ مثل هذا الوضع غير معقول بداهة، إذ تنتج كتلة ضخمة من المنتجات لا يولد إنتاجها أي دخل، ما دام ليس ثمة شخص يتدخل في هذا الإنتاج. ومع ذلك يراد "بيع" هذه المنتجات التي لن يوجد لها أي مشتر! من البديهي أن توزيع المنتجات، في مثل هذا المجتمع، لن يجري بشكل بيع سلع، بيع يغدو غير معقول بسبب الوفرة التي نشأت عن الأتمتة الشاملة.
وبعبارة أخرى، ان مجتمعا يلغي فيه دور العمل البشري في الإنتاج إلغاء كليا، بالمعنى الواسع للكلمة، بما فيها الخدمات، هو مجتمع تتلاشى فيه قيمة التبادل بالتبعية. إن هذا يبرهن على صحة النظرية، فحينما يتلاشى العمل البشري من الإنتاج، تتلاشى معه القيمة . 

جديد قسم : Marxist theory

إرسال تعليق