-->

رأس المال و الرأسمالية  



5- تزايد التركيب العضوي لرأس المال

                                   
إن كل الإنتاج الرأسمالي يمكن تمثيله من حيث قيمته بالصيغة التالية: ف + م + ث. إن قيمة كل سلعة تنقسم إلى جزأين: جزء منها يكون قيمة محتفظا بها، وجزء هو قيمة منتجة حديثا. إن لقوة العمل وظيفة مزدوجة وقيمة استعمال مزدوجة: المحافظة على جميع القيم الموجودة لوسائل الإنتاج، من آلات وأبنية، عن طريق دمج جزء من هذه القيمة في الإنتاج الجاري، وخلق قيمة جديدة يكون فائض القيمة، أي الربح، جزءا منها. إن جزءا من هذه القيمة الجديدة يذهب إلى العامل، وهو يمثل مقابل أجره، أمّا الجزء الآخر، فائض القيمة، فيحتكره الرأسمالي بلا مقابل.
إننا نرمز إلى مقابل الأجور بـ م، أي رأسمال متغير. لم هو رأسمال؟ لأن الرأسمالي يسلف فعلا هذه القيمة، فهي إذن جزء من رأسماله، ينفقه قبل أن تتحقق قيمة السلع التي ينتجها العمال المذكورون.
ونرمز إلى رأسمال المال الثابت بـ ث. إن رأس المال الثابت هو جزء رأس المال المتحول إلى آلات وأبنية ومواد أولية وسواها. والذي لا يؤدي الإنتاج إلى زيادة قيمته، بل إلى المحافظة عليها وحسب. ونسمي رأس مال متغير م الجزء من رأس المال الذي يشتري به الرأسمالي قوة العمل، لأنه الجزء الوحيد من رأس المال الذي يتيح للرأسمالي زيادة رأسماله بفائض قيمة.
ما هو الآن، المنطق الاقتصادي للمنافسة، للاندفاعة نحو زيادة الإنتاجية، للاندفاعة نحو زيادة الوسائل الآلية، عمل الآلات؟ إن منطق هذه الاندفاعة، أي الاتجاه الأساسي للنظام الرأسمالي هو زيادة أهمية ث ، أهمية رأس المال الثابت بالنسبة إلى مجموع رأس المال. ففي الكسر (ث+م)/ث يتجه ث إلى التزايد، أي أن الجزء من رأس المال المكون من آلات ومواد أولية، لا من أجور، يتجه إلى التزايد بنسبة النمو المتزايد للمكننة، حيث تكره المنافسة الرأسمالي على زيادة إنتاجية العمل أكثر فأكثر. هذا الكسر (ث+م)/ث نسميه التركيب العضوي لرأس المال: فهو إذن العلاقة بين رأس المال الثابت ومجموع رأس المال، ونقول إن هذا التركيب العضوي يتجه إلى التزايد في النظام الرأسمالي.
كيف يستطيع الرأسمالي أن يحصل على آلات جديدة؛ ماذا يعني قولنا أن رأس المال الثابت يتزايد باطراد؟
إن العملية الأساسية للاقتصاد الرأسمالي هي إنتاج فائض القيمة. ولكن ما دام الأمر مقتصرا على إنتاج فائض القيمة، فإن هذا الفائض يبقى مجمدا في سلع، ولا يستطيع الرأسمالي استخدامه. لا يمكن تحويل أحذية لم تبع إلى آلات جديدة، إلى إنتاجية أكبر. إن رجل الصناعة الذي يملك أحذية عليه أن يبيع هذه الأحذية ليستطيع شراء آلات جديدة، إن جزءا من حصيلة البيع سيفيد منه في شراء آلات جديدة، رأس مال ثابت إضافي.
وبعبارة أخرى: إن تحقيق فائض القيمة هو شرط تراكم رأس المال، الذي لا يعدوا أن يكون تحويل فائض القيمة إلى رأس مال.
إن تحقيق فائض القيمة هو بيع السلع بشروط بحيث يتحقق فعلا فائض القيمة الذي تتضمنه هذه السلع في السوق. إن جمع المشروعات التي تعمل في حدود متوسط إنتاجية المجتمع -التي يقابلها مجموع إنتاجها بالتالي عملا ضروريا اجتماعيا- مفروض فيها أن تحصل عن طريق بيع سلعها على مجموع القيمة وفائض القيمة المنتج في معاملها، دون زيادة أو نقصان. ونحن نعلم مما سبق أن المشروعات ذات الإنتاجية فوق المتوسطة ستحتكر جزءا من فائض القيمة الذي ينتج في مشروعات أخرى، بينما لا تحصل المشروعات التي تعمل بإنتاجية أدنى من متوسط الإنتاجية على جزء من فائض القيمة المنتج في معاملها، بل تتنازل عنه إلى معامل أخرى يرتفع مستواها التكنولوجي. إن تحقيق فائض القيمة يعني إذن بيع السلع بشروط يدفع فيها المشترون فعليا مجموع فائض القيمة الذي ينتجه عمال المعمل الذين صنعوا هذه السلع.
فحينما تباع كتلة من السلع التي أنتجت في فترة معينة، يسترد الرأسمالي مبلغا من المال يكون مقابل رأس المال الثابت الذي أنفقه في الإنتاج، أي بما في ذلك المواد الأولية التي استخدمت في هذا الإنتاج وجزء من قيمة الآلات والأبنية التي اهتلكت بهذا الإنتاج. كما أنه يسترد مقابل الأجور التي سلفها لتكون عملية الإنتاج ممكنة. ويحصل فضلا عن ذلك على فائض قيمة أنتجه عماله.
ما مصير فائض القيمة هذا؟ إن جزءا منه يستهلكه الرأسمالي بصورة غير منتجة، لأنه ينبغي على المسكين أن يعيش، ويعيل أسرته وكل من هم حوله، وكل ما ينفقه في هذه الأغراض يسحب كليا من عملية الإنتاج.
أمّا الجزء الثاني من فائض القيمة فيراكم، يستخدم ليحول إلى رأس مال. ففائض القيمة المتراكم هو إذن جزء فائض القيمة الذي لم يستهلك بصورة غير منتجة لسد الحاجات الخاصة للطبقة الحاكمة، والذي جرى تحويله إلى رأس مال، سواء أكان رأس مال ثابتا إضافيا، أي كمية (أو بالأحرى قيمة) إضافية من المواد الأولية والأبنية أو رأسمالا متغيرا إضافيا، أي وسائل لاستخدام عدد أكبر من العمال.
نستطيع الآن أن نفهم لماذا كان تراكم رأس المال يعني تحويل فائض القيمة إلى رأس مال، أي تحويل جزء كبير من فائض القيمة إلى رأس مال إضافي. كما نفهم كيف أن عملية تزايد التركيب العضوي لرأس المال تمثل سلسلة غير منقطعة من عمليات الرسملة (التحويل إلى رأس مال) أي إنتاج فائض القيمة من قبل العمال، وتحويله من قبل الرأسماليين إلى أبنية وآلات ومواد أولية وعمال إضافيين.
ليس صحيحا إذن التأكيد أن الرأسمالي هو الذي يخلق مجال الاستخدام، لأن العامل هو الذي ينتج فائض القيمة، وأن فائض القيمة هذا الذي ينتجه العامل هو الذي يحوله الرأسمالي إلى رأسمال، ويستخدمه بصورة خاصة في استخدام عمال إضافيين. وفي الواقع أن كل كتلة الثروات الثابتة التي نراها في العالم، كل كتلة المعامل والآلات والطرق والسكك الحديدية والمرافئ والحظائر وسواها -كل هذه الكتلة الضخمة من الثروات ليست سوى التجسيد المادي لكتلة من فائض القيمة خلقها العمال من العمل الذي لم يكافأوا عليه وحُوّل إلى ملكية خاصة، إلى رأس مال الرأسماليين، أي أنها برهان ساطع على الاستغلال الدائم الذي تعانيه الطبقة العاملة منذ نشوء المجتمع الرأسمالي.
هل يزيد جميع الرأسماليين باطراد آلاتهم ورأسمالهم الثابت والتركيب العضوي لرأسمالهم؟ لا. إن تزايد التركيب العضوي لرأس المال يتم بصورة تناحرية عبر صراع تنافسي يحكمه هذا القانون الذي توضحه صورة رسمها بيير برويغيل P Brueghel الرسام الكبير في بلدي: كبار السمك يلتهم صغاره.
إن صراع المنافسة يقترن إذن بتركز مستمر في رأس المال، بحلول عدد أقل من المنظمين محل عدد أكبر، وتحول عدد من المنظمين المستقلين إلى تقنيين ومديرين وجهاز إداري إن لم يكن إلى مجرد مستخدمين وعمال تابعين.

6- المنافسة تؤدي إلى التركز وإلى الاحتكارات


إن تركز رأس المال هو قانون دائم من قوانين المجتمع الرأسمالي، وهو يقترن بانحدار جزء من الطبقة البرجوازية إلى الطبقة البروليتارية، وبمصادرة عدد من البرجوازيين من قبل عدد أقل من البرجوازيين. ولهذا يؤكد "البيان الشيوعي" لماركس وانجلز على واقعة أن الرأسمالية، التي تدعي حماية الملكية الفردية، هي في الواقع المدمر لهذه الملكية الخاصة، وتقوم بمصادرة مستمرة ودائمة لعدد كبير من المالكين من قبل عدد قليل نسبيا من المالكين. إن ثمة فروعا صناعية يبدو فيها هذا التركز صارخا، بشكل خاص في استخراج الفحم، حيث كان يوجد في القرن التاسع عشر مئات من شركات الفحم في بلد كفرنسا(كان في بلجيكا حوالي مائتا شركة)، وصناعة السيارات التي كانت تعد، في مطلع هذا القرن، في بلاد كالولايات المتحدة أو إنجلترا مائة منشأة أو أكثر، تقلصت اليوم إلى أربع أو خمس أو ست منشآت على الأكثر.
ثمة صناعات، بكل تأكيد، كان التركز فيها أقل اندفاعا، كصناعة النسيج مثلا، والصناعة الغذائية وسواها. وبصورة عامة، كلما كان التركيب العضوي لرأس المال كبيرا في فرع صناعي، كان التركز أشد قوة، وكلما كان التركيب العضوي لرأس المال أقل ارتفاعا كان تركز رأس المال أضعف، لماذا؟. كلما كان التركيب العضوي لرأس المال أضعف، كلما قلت الحاجة إلى رؤوس الأموال في البداية للدخول في هذا الفرع وإقامة مشروع جديد فيه. إنه لأسهل كثيرا تجميع خمسين أو مائة مليون فرنك قديم اللازمة لتشييد معمل نسيج جديد من جمع عشرة مليارات أو عشرين مليارا اللازمة لتشييد مجمع الصلب ولو كان صغيرا نسبيا.
لقد ولدت الرأسمالية من المنافسة الحرة، ولا يمكن تصور الرأسمالية بدون منافسة. بيد أن المنافسة الحرة تولد التركز، والتركز ينتج نقيض المنافسة الحرة أي الاحتكار. وحيث يوجد عدد قليل من المنتجين، فإن هؤلاء يستطيعون بسهولة التفاهم على حساب المستهلكين عن طريق الاتفاق لتوزيع السوق فيما بينهم، والاتفاق لوقف أي انخفاض في الأسعار.
ويبدو أن الديناميكية الرأسمالية كلها قد غيرت طبيعتها خلال قرن من الزمن. كان لدينا في البداية حركة تتجه نحو الانخفاض المستمر في الأسعار عن طريق التزايد المستمر في الإنتاج، وعن طريق التضاعف المستمر لعدد المشروعات. وازدياد حدة المنافسة يفضي اعتبارا من فترة معينة من تركز المشروع إلى تقليص عدد المشروعات التي تستطيع عند ذاك التفاهم فيما بينها على عدم تخفيض الأسعار والتي لا تستطيع احترام مثل هذه الاتفاقات إلاّ بتقييد الإنتاج. بذلك حل عهد رأسمالية الاحتكارات محل رأسمالية المنافسة الحرة بدءا من الربع الأخير للقرن التاسع عشر.
لا شك أنه عند الحديث عن رأسمالية الاحتكارات، لا ينبغي قط أن ينصرف الذهن إلى رأسمالية ألغت المنافسة كليا. ذلك أمر لا وجود له. وكل ما نعنيه هو رأسمالية أصبح سلوكها الأساسي مختلفا، أي رأسمالية لا تدفع بعد إلى انخفاض مستمر في الأسعار عن طريق التزايد المستمر في الإنتاج، رأسمالية تستخدم تقنية توزيع السوق وتثبيت الحصص في السوق. بيد أن هذه العملية تنتهي إلى مفارقة. لماذا يعمد الرأسماليون، الذين كانوا يتنافسون في السابق، إلى التفاهم بغية الحد من المنافسة والحد من الإنتاج؟ لأن هذا وسيلة في يدهم لزيادة أرباحهم. إنهم لا يتفاهمون إلاّ إذا كان التفاهم يدر عليهم مزيدا من الأرباح. إن الحد من الإنتاج، إذ يتيح زيادة الأسعار، يدر مزيدا من الأرباح، ويتيح بالتالي تحقيق تراكم أكبر في رؤوس الأموال. بيد أنه لا يعود ممكنا تثمير رؤوس الأموال هذه في نفس الفرع، لأن تثمير رؤوس الأموال إنما يعني بالذات زيادة الطاقة الإنتاجية، أي زيادة الإنتاج، وبالتالي التسبب في انخفاض الأسعار. لقد وقعت الرأسمالية في هذا التناقض اعتبارا من الربع الأخير للقرن التاسع عشر. إنها تكتسب آنذاك فجأة صفة لم يتوقعها سوى ماركس وحده، وبقيت بعيدة عن فهم اقتصاديين مثل ريكاردو أوآدم سميث: إن نمط الإنتاج الرأسمالي يغير أسلوبه. إنه يأخذ في الانتشار في العالم بأسره عن طريق تصدير رؤوس الأموال، التي تنتج إقامة مشروعات رأسمالية في بلاد أو قطاعات ليس فيها احتكارات بعد.
إن النتيجة المترتبة على تحول بعض الفروع إلى احتكارات وعلى توسيع رأسمالية الاحتكارات في بعض البلاد هي توالد نمط الإنتاج الرأسمالي في بعض الفروع التي لم تتحول إلى احتكارات بعد، وفي بعض البلاد التي لم تصبح رأسمالية بعد. وعلى هذا النحو انتشر الاستعمار (الكولونيالية) وكل مظاهره، بسرعة متنامية خلال عقود قليلة من السنين، في جزء صغير من الكرة الأرضية، التي انحصر فيها في السابق نمط الإنتاج الرأسمالي، إلى العالم بأسره حوالي مطلع القرن العشرين. وبذلك تحول كل بلد في العالم إلى منطقة نفوذ وميدان استثمار لرأس المال.

7- نزوع متوسط الربح إلى الانحدار


رأينا منذ قليل أن فائض القيمة الذي ينتجه العمال في كل معمل يبقى "مجمدا" في السلعة المنتجة، وان معرفة ما إذا كان فائض القيمة هذا سيتحقق أم لا بالنسبة للرأسمالي مالك المعمل مسألة تفصل فيها ظروف السوق، أي إمكان هذا المعمل بيع سلعه بسعر يتيح له الحصول على فائض القيمة هذا. وفي وسعنا إذا طبقنا قانون القيمة الذي شرحناه هذا الصباح أن نضع القاعدة التالية: إن جميع المشروعات التي تنتج في مستوى متوسط الإنتاجية ستحصل بشكل عام على فائض القيمة الذي أنتجه عمالها، أي أنها ستبيع سلعها بسعر يعادل قيمتها.
غير أن هذا لن يكون حال فئتين من المشروعات: المشروعات التي تعمل في مستوى يقل عن مستوى متوسط الإنتاجية، والمشروعات التي تعمل في مستوى يزيد عنه.
ما معنى فئة المشروعات التي تعمل دون مستوى متوسط الإنتاجية؟ إنها ليست سوى تعميم صورة صانع الأحذية الخامل الذي تحدثنا عنه هذا الصباح. إنها، مثلا، مجمع الصلب الذي ينتج 500 ألف طن من الصلب في 2.2 مليون ساعة عمل أو في 2.5 مليون أو 3 ملايين ساعة بينما المتوسط القومي لإنتاجها هو 2 مليون ساعة. إنه يبدد إذن من وقت العمل الاجتماعي. إن فائض القيمة الذي ينتجه عمال هذا المعمل لن يحصل عليه كاملا مالكو هذا المعمل، إنه سيعمل بربح يقل من متوسط ربح كل مشروعات البلد.
بيد أن الكتلة الكلية لفائض القيمة في المجتمع هي كتلة ثابتة تتوقف في التحليل الأخير على مجموع ساعات العمل التي يبذلها مجموع العمال الذين يعملون في الإنتاج. إن هذا يعني أنه إذا وجد عدد من المشروعات لا تحصل، لأن إنتاجيتها دون مستوى متوسط الإنتاجية ولأنها بددت من وقت العمل الاجتماعي، على مجموع فائض القيمة الذي أنتجه عمالها، إلاّ أنه يبقى رصيد فائض القيمة المتاح والذي ستستحوذ عليه المعامل التي تعمل فوق مستوى متوسط الإنتاجية، والتي وفرت بالتالي وقت العمل الاجتماعي والتي يكافئها المجتمع لهذا السبب.
إن هذا التفسير النظري يساعدنا على تفهم الآليات التي تحدد حركة الأسعار في المجتمع الرأسمالي. ولكن كيف تعمل هذه الآليات من الناحية العملية؟
ما أن نكف عن تأمل عدة فروع صناعية، لتتوقف عند فرع واحد حتى تصبح الآلية جد بسيطة وشفافة.

لنقل إن متوسط سعر مبيع قاطرة يبلغ 50 مليون فرنك قديم. ما الفرق في هذه الحالة بين معمل يعمل دون مستوى متوسط الإنتاجية وآخر يعمل فوق مستوى متوسط الإنتاجية؟ إن المعمل الأول يكون قد أنفق 49 مليون من أجل إنتاج قاطرة، أي أنه لن يحصل إلاّ على مليون واحد من الأرباح. وبالعكس فإن المشروع الذي يعمل فوق متوسط إنتاجية العمل سينتج القاطرة ذاتها بإنفاق 38 مليون مثلا. إنه سيحصل تبعا لذلك على 12 مليونا من الأرباح أي على 32% من هذا الإنتاج الجاري، بينما متوسط الربح هو 10، أما المشروعات العاملة في متوسط الإنتاجية الاجتماعية للعمل فستنتج القاطرات بسعر الكلفة البالغة 45.5 مليون، ولن تحصل بالتالي إلاّ على 4.5 مليون من الأرباح، أي 10% [3].
وبعبارة أخرى، فان المنافسة الرأسمالية تحابي المشروعات الرائدة تكنولوجيا، فهذه المشروعات تحقق أرباحا إضافية تتجاوز الربح المتوسط. إن متوسط الربح هو في الحقيقة مفهوم مجرد، تماما هو شأن القيمة. إنه متوسط تتراوح حوله معدلات الربح الحقيقية في مختلف الفروع والمشروعات. إن رؤوس الأموال تتدفق نحو الفروع التي تدرّ أرباحا إضافية، وتتحسر عن الفروع التي تكون أرباحها دون المتوسط. وبسبب هذا التدفق والانحسار في رؤوس الأموال من فرع إلى آخر تتجه معدلات الربح إلى الاقتراب من هذا المتوسط، دون أن تبلغه قط بشكل مطلق وآلي.
وهاكم الآن كيف يتحقق تساوي معدل الربح. ثمة طريقة جد بسيطة لتحديد متوسط معدل الربح بصورة مجردة: نأخذ مجموع كتلة فائض القيمة التي أنتجها جميع العمال، خلال سنة واحدة مثلا، في بلد معين، وننسبها إلى مجموع كتلة رأس المال المستثمر في هذا البلد.
ما هي صيغة الربح؟ إنها العلاقة بين فائض القيمة ومجموع رأس المال إذن: (ث+م)/ف.
وينبغي أن نأخذ بعين الاعتبار صيغة أخرى: م/ف ترمز إلى معدل فائض القيمة أو معدل استغلال الطبقة العاملة. إنها تحديد الأسلوب الذي نوزع بمقتضاه القيمة المنتجة حديثا بين العمال والرأسماليين.
فإذا كانت م/ف مثلا تعادل 100%، فمعنى ذلك أن القيمة المنتجة حديثا تتوزع إلى جزئين متساويين، يكون الجز الأول من نصيب العمال بشكل أجور، والجزء الثاني من نصيب الطبقة البرجوازية بمجموعها بشكل أرباح وفوائد وريع وسواها.
وحين يكون معدل استغلال الطبقة العاملة 100%، فإن يوم العمل بثماني ساعات ينقسم إذن إلى جزأين متساويين: 4 ساعات عمل ينتج العمال خلالها ما يقابل أجورهم، و4 ساعات يقدمون خلالها عملا مجانيا، عملا لا يكافئهم عليه الرأسماليون، بل يمتلكون حصيلته.
ويبدو للوهلة الأولى أنه إذا كان الكسر (ث+م)/ف يزداد بينما يتزايد التركيب العضوي لرأس المال، وأن ث تصبح أكبر فأكبر بالنسبة لـ م، فإن هذا الكسر يتجه إلى النقصان، مما يعني انخفاض متوسط معدل الربح تبعا لزيادة التركيب العضوي لرأس المال، لأن ف لا تنتج إلاّ من قبل م لا من ث. بيد أن ثمة عاملا يمكن أن يشل أثر تزايد التركيب العضوي لرأس المال: إنه بالذات تزايد معدل فائض القيمة.
إذا كان م/ف، أي معدل فائض القيمة يزداد، فمعنى ذلك أن البسط والمقام في الكسر (ث+م)/ف يزدادان كلاهما، وفي هذه الحالة يمكن للكسر في مجمله أن يحتفظ بقيمته، شريطة أن تتحقق الزيادة في كلا الحدين بنسبة معينة.
وبعبارة أخرى: إن تزايد معدل فائض القيمة يمكن أن يشل مفاعيل تزايد التركيب العضوي لرأس المال. لنفترض أن الإنتاج ث+م+ف يزداد من 100 ث+100م +100ف إلى 200ث+ 100م +100ف. بدا يكون التركيب العضوي لراس المال قد ازداد من 50 إلى 66%، وانخفض معدل الربح من 50 إلى 33%. ولكن إذا ارتفع فائض القيمة في الوقت ذاته من 100 إلى 150، أي أن معدل فائض القيمة ينتقل من 100 إلى 150% فإن معدل الربح 300/150 يبقى 50%: ان تزايد معدل فائض القيمة قد شل مفعول تزايد التركيب العضوي لرأس المال.
هل يمكن لهاتين الحركتين أن تتما تماما بالنسبة اللازمة لتشل إحداهما الأخرى؟ إننا نلمس هنا نقطة الضعف الأساسية (عقب آخيل) في النظام الرأسمالي، إن هاتين الحركتين لا يمكن أن تتطورا على المدى الطويل بنسبة واحدة، إذ ما من حد لتزايد التركيب العضوي لرأس المال. وفي الحد الأقصى يمكن لـ م أن تنخفض إلى الصفر، عندما نصل إلى الأتمتة الكاملة. فهل يمكن لـ م/ف أن تتزايد أيضا بصورة غير محدودة، دون أي قيد؟ لا، فلكي يوجد فائض قيمة، لابد من أن يكون ثمة عمال يعملون، وفي هذه الشروط فإن جزء يوم العمل الذي ينتج العامل خلاله ما يعادل أجره لا يمكن أن ينخفض إلى الصفر. يمكن إنقاص ساعات العمل من 8 إلى 7 ساعات، من 7 إلى 6 ساعات، من 6 ساعات إلى خمس ساعات، من خمس ساعات إلى أربعة ساعات، من أربعة ساعات إلى ثلاث ساعات، من ثلاث ساعات إلى ساعتين، من ساعتين إلى ساعة واحدة، إلى خمسين دقيقة. إنها لإنتاجية هائلة تلك التي تتيح للعامل أن ينتج في خمسين دقيقة ما يقابل كل أجره، إلاّ أنه لن يتمكن قط من إنتاج هذا المقابل من أجره في صفر دقيقة، وصفر ثانية. إن ثمة بقية لن يستطيع الاستغلال الإقتصادي قط أن يلغيها. مما يعني أن انهيار متوسط معدل الربح أمر محتوم مع الزمن، واعتقد شخصيا، خلافا لعدد لا بأس به من النظريين الماركسيين، أن هذا الانهيار أمر يمكن البرهنة عليه بالأرقام، بمعنى أن متوسط معدلات الربح في البلاد الرأسمالية الكبيرة هي اليوم أدنى بكثير مما كانت عليه منذ خمسين أو مائة أو مائة وخمسين عام.
صحيح أننا إذا تأملنا فترات أقصر نجد حركات باتجاه مختلف. ذلك ان ثمة عوامل عديدة تلعب دورها (سنتحدث عنها صباح غذ عندما نتحدث عن الرأسمالية الجديدة). غير أن الحركة جد واضحة في الفترات الأكثر امتدادا، سواء في ذلك معدل الفائدة أو معدل الربح. وينبغي أن نذكر أصلا أن اتجاه التطور هذا كان هو أكثر اتجاهات تطور الرأسمالية وضوحا في نظر النظريين الرأسماليين أنفسهم. فريكاردو يتحدث عنه، وجون ستيوارت ميل يلح عليه وكينز شديد الحساسية بالنسبة له. لقد كان في إنجلترا في أواخر القرن التاسع عشر ما يشبه المثل الشعبي: إن الرأسمالية تستطيع تحمل كل شيء، إلاّ انهيار متوسط معدل الفائدة إلى 2%، لأنه يلغي الحافز إلى التثمير.
من الواضح أن هذا القول السائر ينطوي على شيء من الخطأ في المحاكمة. إن لحساب النسب المئوية، ومعدلات الربح، قيمة حقيقية، إلاّ أنها قيم نسبية في النهاية بالنسبة للرأسمالي. إن ما يهمه ليس النسبة التي يربحها من رأسماله وحسب، بل هي كذلك مجموع المبلغ الذي يربحه. ولئن كانت نسبة 2% نسبة لا إلى 100 ألف بل إلى 100 مليون، فإنها تبقى مع ذلك تمثل 2 مليون، وسيفكر الرأسمالي عشر مرات قبل أن يقول أنه يؤثر أن يجمد رأسماله، بدلا من أن يكتفي بهذا الربح التافه الذي لا يتجاوز 2 مليون في السنة.
ولذلك لم نشهد في فرع من فروع الصناعة توقفا كليا في نشاط الاستثمار نتيجة انهيار معدل الربح والفائدة، بل بالأحرى تباطؤا يتزايد كلما تدنى معدل الربح. وبالعكس ففي الفروع الصناعية أو في الفترات التي تتسم بتوسع أسرع ويتجه فيها معدل الربح إلى التزايد فإن نشاط الاستثمار يسترد اندفاعه وبتسارع، وعند ذاك يبدو بأن الحركة تستمد عزمها من ذاتها. ويبدو أن هذا التوسع يجري بلا حدود إلى أن ينقلب الاتجاه من جديد

8- التناقض الأساسي في النظام الرأسمالي وأزمات فرط الإنتاج الدورية


ثمة اتجاه في الرأسمالية إلى أن توسع الإنتاج بلا حدود، إلى أن توسع دائرة نشاطها ليشمل العالم بأسره، إلى اعتبار كل الكائنات البشرية كزبائن محتملين (ثمة تناقض طريف يحسن الإشارة إليه، وقد تحدث عنه ماركس من قبل: إن كل رأسمالي يرغب دوما في أن يزيد الرأسماليون الآخرون أجورهم، لأن أجور هؤلاء العمال هي قوة شرائية لسلع الرأسمالي المنوه عنه. بيد أنه لا يقبل أن تزداد أجور عماله هو لأن هذا ينقص كما هو واضح أرباحه الخاصة).
فثمة ترابط بنيوي عجيب للعالم الذي يصبح وحدة اقتصادية، مع ترابط شديد الحساسية بين مختلف أطرافه. وتعرفون جميعا الدعايات التي استخدمت في هذا الشأن: لئن عطس فرد في بورصة نيو يورك، فمعنى ذلك خراب عشرة آلاف فلاح في ماليزيا.
إن الرأسمالية تنشئ ترابطا عجيبا بين الدخول وتوحيدا في أذواق البشر جميعا، إن الإنسان يصبح فجأة واعيا لغنى الإمكانيات البشرية، بعد أن كان في المجتمع السابق للرأسمالية سجين الإمكانات الطبيعية المحدودة لمنطقة واحدة. في القرون الوسطى لم تكن أوروبا تأكل الأناناس، لم يكونوا يأكلون إلاّ الفواكه المحلية. أمّا الآن فيأكلون، عمليا، الفواكه التي تنتج في العالم بأسره. بل أخذوا يقدمون الآن حتى على أكل فواكه الصين والهند التي لم يكونوا قد ألفوها قبل الحرب العالمية الثانية.
إن ثمة روابط متبادلة تقوم بين جميع المنتجات وجميع البشر. وبعبارة أخرى فإن الحياة الاقتصادية كلها تتسم بطابع اجتماعي متزايد إذ تصبح كلا واحدا، نسيجا واحدا. ولكن ببساطة فإن حركة الترابط هذه تتمحور كلها بشكل جنوني على المصلحة الخاصة والتملك الخاص لعدد صغير من الرأسماليين، تتناقض مصالحهم الخاصة بصورة متزايدة مع مصالح مليارات الكائنات البشرية التي ينتظمها هذا الكل الواحد.
وفي أزمات اقتصادية يتفجر بأجلى صوره التناقض بين الطابع الاجتماعي المتنامي للإنتاج والتملك الفردي الذي هو منه بمثابة المحرك والأساس، ذلك أن الأزمات الإقتصادية ظاهرات رهيبة مما لم يشهد لها مثيل من قبل. إنها ليست أزمات ندرة، قلة، كما كان شأن جميع الأزمات السابقة للرأسمالية، إنها أزمات فرط إنتاج. إن العاطلين يموتون فجأة من الجوع لا لأن الأكل المتاح لهم أقل بكثير مما يجب، بل لأنه يوجد نسبيا من المنتوجات الغذائية أكثر مما ينبغي.
قد يبدو هذا، للوهلة الأولى، أمرا يستعصي على الفهم، إذ كيف يمكن للمرء أن يموت جوعا بسبب وجود وفرة من الغداء، وفرة من السلع؟ إن آلية النظام الرأسمالي تتيح لنا فهم هذه المفارقة الظاهرية. إن السلع التي لا تجد مشتريا لها، لا تحقق فائض القيمة منها، بل إنها لا تعيد تكوين (تجديد) رأس المال المستثمر فيها. إن قلة البيع تجبر المنظمين إذن على إغلاق أبواب مشروعاتهم. وهم مضطرون إذن إلى تسريح عمالهم. وما دام هؤلاء العمال المسرحون لا يملكون احتياطيات، لأنهم لا يستطيعون الاستمرار في العيش إلاّ إذا باعوا قدرتهم على العمل، فإن البطالة تحكم عليهم بالبؤس الشديد، بالذات لأن الوفرة النسبية في السلع قد سببت عدم بيعها.
إن واقعة الأزمات الاقتصادية الدورية كامنة في النظام الرأسمالي، ولم يستطع التغلب عليها بعد. وسنرى بعد قليل أن هذا يبقى صحيحا في نظام الرأسمالية الجديدة التي نعيش في عهده الآن، حتى لو سمينا هذه الأزمات «فترات ركود». إن الأزمات هي أوضح تعبير (تجلٍّ) عن التناقض الأساسي في النظام، والتذكير الدوري بأنه محكوم عليه بالموت عاجلا أو آجلا. بيد أنه لن يموت أبدا بصورة آلية. ولا بد دوما من إعطائه دفعة صغيرة واعية للإجهاز عليه نهائيا. وهذه مهمتنا نحن، الحركة العمالية.


جديد قسم : theory

إرسال تعليق