رأس المال والرأسمالية
1- رأس المال في المجتمع السابق للرأسمالية
بين
المجتمع البدائي، الذي ما يزال يقوم على اقتصاد طبيعي، ولا تنتج فيه إلاّ قيم
استخدام معدة ليستهلكها المنتجون أنفسهم، بين هذا المجتمع والمجتمع الرأسمالي تمتد
فترة طويلة من تاريخ الإنسانية تشمل، في الحقيقة، كل الحضارات البشرية التي توقفت
عند عتبة الرأسمالية. وتعرف الماركسية هذه الفترة بأنها مجتمع الإنتاج السلعي
الصغير. فهو مجتمع يعرف إذن إنتاج السلع، سلع معدة لا ليستهلكها مباشرة منتجوها،
بل معدة للتبادل في السوق، بيد أن هذا الإنتاج التجاري لم يتعمم بعد كما هو الحال
في المجتمع الرأسمالي.
وفي
مجتمع يقوم على الإنتاج السلعي الصغير، يجري نوعان من العمليات الإقتصادية. إن
الفلاحين والحرفيين إذ يذهبون إلى السوق بمنتجات عملهم، إنما يريدون بيع هذه
السلع، التي لا يستطيعون الإفادة مباشرة من قيمتها في الاستخدام، بقصد الحصول على
المال، أي أدوات مبادلة للحصول على سلع أخرى، يفتقدون إلى قيمة استخدامها أو هي
أهم بالنسبة لهم من قيمة استخدام السلع التي يمتلكونها.
إن
الفلاح يرتاد السوق مع القمح، يبيع قمحه مقابل المال، ويشتري بهذا المال جوخا
مثلا. إن الحرفي يرتاد السوق مع جوخه، فيبيع الجوخ مقابل المال، وبهذا المال يشتري
القمح مثلا.
فالعملية
هي إذن: بيع من أجل الشراء، سلعة- مال- سلعة. س- م- س، تتصف بواقعية أساسية: عن
قيمة الحدين في هذه المعادلة، هي بحكم تعريفها متساوية تماما.
بيد أنه
يظهر، في الإنتاج السلعي الصغير، إلى جانب الحرفي والفلاح الصغير، شخص آخر يقوم
بعملية اقتصادية مختلفة.إنه يشتري ليبيع، بدلاً من أن يبيع ليشتري. إنه رجل يرتاد
السوق دون أن يحمل بضاعة بيده، إنه مالك مال. إن المال (النقد) لا يمكن بيعه، ولكن
يمكن استخدامه في الشراء، وهذا ما يقوم به هذا الشخص: إنه يقدم إلى الشراء لكي
يبيع، لكي يعيد بيع السلعة: م- س- م’.
إن ثمة
فرقا أساسيا بين العمليتين الأولى والثانية.إذ أن العملية الثانية لا معنى لها إذا
كنا في نهاية العملية أمام قيمة متساوية تماما مع القيمة في بداية العملية. فما من
امرئ يشتري بضاعة ليعيد بيعها تماما بنفس السعر الذي اشتراها به. إن عملية الشراء
بقصد البيع، لا معنى لها إذا لم ينتج عن البيع زيادة في القيمة، فائض قيمة. ولهذا
نقول هنا أن م’ أكبر من م بحكم التعريف، وأنه مركب من م + مـ، على اعتبار أن مـ هي
فائض القيمة، أي مقدار تزايد قيمة م.
ونستطيع
الآن أن نعرف رأس المال بأنه قيمة تتزايد بفائض قيمة سواء كان ذلك عبر تداول
البضائع، كما في المثال الذي أوردناه أو عبر الإنتاج، كما هو الحال في النظام
الرأسمالي. إن رأس المال هو إذن كل قيمة تتزايد بفائض قيمة. ورأس المال هذا لا
يقتصر وجوده على المجتمع الرأسمالي، إنه موجود في المجتمع القائم على الإنتاج
السلعي الصغير. وينبغي بالتالي أن نفرق بشكل واضح بين وجود رأس المال ووجود نمط
الإنتاج الرأسمالي، في المجتمع الرأسمالي. إن رأس المال موجود في الأرجح منذ حوالي
ثلاثة آلاف عام، بينما لا يتجاوز عمر نمط الإنتاج الرأسمالي المائتي عام.
ما هو
شكل رأس المال في المجتمع السابق للرأسمالية؟ إنه، في جوهره، رأس مال مراب ورأسمال
تجاري. والانتقال من المجتمع السابق للرأسمالية إلى المجتمع الرأسمالي هو تغلغل
رأس المال في مجال الإنتاج. إن نمط الإنتاج الرأسمالي هو أول نمط إنتاج، وأول شكل
في التنظيم الجماعي، لا يقتصر رأس المال فيها على دور الوسيط واستغلال أشكال إنتاج
غير الرأسمالية التي تستمر مبنية على الإنتاج السلعي الصغير، بل يمتلك فيها رأس
المال وسائل الإنتاج وينفذ إلى الإنتاج بمعناه الدقيق.
2- أصول نمط الإنتاج الرأسمالي
ما هي
أصول نمط الإنتاج الرأسمالي؟ ما هي أصول المجتمع الرأسمالي كما تطور منذ مائتي
عام؟
إنها
أولا الانفصال بين المنتجين ووسائل الإنتاج. وهي من ثم تجمع وسائل الإنتاج هذه في
صورة احتكار بين أيدي طبقة اجتماعية واحدة، هي الطبقة البرجوازية. وهي أخيرا ظهور
طبقة اجتماعية أخرى، لم يعد لها من مورد لتعيش، بعد انفصالها عن وسائلها في
الإنتاج، غير بيع قدرتها على العمل إلى الطبقة التي احتكرت وسائل الإنتاج.
لنعالج
كلا من أصول نمط الإنتاج الرأسمالي هذه، وهي في الوقت ذاته الخصائص الأساسية
للنظام الرأسمالي ذاته.
أولى هذه
الخصائص: انفصال المنتج عن وسائله في الإنتاج. إنها الشرط الأساسي لوجود النظام
الرأسمالي. وهي أقل الخصائص وضوحا في الأذهان. لنأخذ مثلا قد يبدو لنا ضربا من
المفارقة، مجتمع مطلع القرون الوسطى، الذي يتصف بالقنانة.
إننا
نعلم أن جمهرة المنتجين-الفلاحين كانت في هذا المجتمع أقنانا مرتبطين بالأرض. غير
أنه عندما يقال إن القن مرتبط بالأرض إنما يتضمن ذلك أن الأرض مرتبطة بالقن، فنحن
أمام طبقة اجتماعية تعتمد دوما على قاعدة لسد حاجاتها، لأن القن كان يتصرف بمساحة
من الأرض تكفي ليتمكن عمل يعتمد على ذراعين، ولو بمسائل بدائية، من سد حاجات أسرة.
ونحن لسنا أمام أناس محكوم عليهم أن يتضوروا (يموتوا) جوعا إن لم يبيعوا قوة
عملهم. في مثل هذا المجتمع ليس ثمة إكراه اقتصادي على العامل لتأجير ذراعيه، ليعرض
على الرأسمالي بيع قوة عمله.
وبعبارة أخرى:
في مجتمع من هذا النوع لا يمكن للنظام الرأسمالي أن ينمو. وثمة تطبيق حديث لهذه
الحقيقة العامة، وهو الأسلوب الذي اتبعه المستعمرون في إدخال الرأسمالية إلى
إفريقيا في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين.
كيف كانت
ظروف معيشة سكان سائر البلدان الإفريقية؟ كانوا يمارسون تربية الحيوانات وزراعة
الأرض، زراعة بدائية أو غير بدائية تبعا للمنطقة، إلاّ أنها تتصف في جميع الأحوال
بوفرة نسبية في الأراضي. لم يكن ثمة ندرة في الأراضي في إفريقيا، بالعكس كان هناك
سكان يتصرفون، بالنسبة لمساحة الأرض، باحتياطي غير محدود عمليا. ولا شك في أن
الحصول على هذه الأرض وبوسائل الزراعة البدائية جدا كان ضعيفا، ومستوى المعيشة
متدنيا جدا، غير أنه لم يكن ثمة إكراه مادي يدفع هؤلاء السكان إلى الانتقال إلى
العمل في مناجم أو مزارع أو معامل المعمر الأبيض. وبعبارة أخرى: لو لم يغير النظام
العقاري في إفريقيا الاستوائية وإفريقيا السوداء لما كان ثمة إمكان لإدخال نمط
الإنتاج الرأسمالي إليها. وكان لا بد، ليمكن إدخال نمط الإنتاج هذا، من فصل جمهرة
السكان السود، بصورة جذرية وبوسائل إكراه غير اقتصادية، عن وسائل معيشتها العادية.
أي أنه كان لا بد من تحويل جزء كبير من الأراضي بين عشية وضحاها إلى أرض مملوكة
للدولة المستعمِرة أو إلى ملكية خاصة للشركات الرأسمالية. كان لا بد من زرْب
السكان السود في أراضٍ، في محتجزات (كما سموها بوقاحة) لم تكن على سعة تكفي لتغذية
سكانها. وكان لا بد أيضا من فرض ضريبة على الرأس، أي ضريبة تسدد بالنقد على كل فرد
من السكان، مع ان الزراعة البدائية لم تكن تدر دخولا نقدية.
عن طريق
هذه الضغوط بوسائل غير اقتصادية أمكن إلزام الإفريقي بأن يعمل كمأجور، ولو لشهرين
أو ثلاثة أشهر في السنة، ليكسب مقابل هذا العمل ما يستطيع أن يسدد به الضريبة
ويشتري ما يسدد به نقص الغذاء، الذي لم يعد باستطاعته الاستمرار في الحياة بدونه،
بسبب عدم كفاية الأراضي التي بقيت تحت تصرفه.
وقد
اتبعت هذه الطريق بنفس المقياس في بلاد كأفريقيا الجنوبية كما في روديسيا، كما في
الكونجو البلجيكي سابقا، حيث أدخل نمط الإنتاج الرأسمالي على أوسع نطاق، واقتلع
جزء كبير من السكان السود من جذورهم وطردوا ودفعوا خارج نمط العمل والحياة
التقليديين.
ولنشر
بشكل عابر إلى النفاق الأيديولوجي الذي اقترن بهذه الحركة، وشكاوى المجتمعات
الرأسمالية ورجال الإدارة البيض من أن السود تنابل، لأنهم لا يريدون أن يعملوا حتى
لو أعطوا إمكانية الحصول في المنجم أو في المعمل على عشرة أضعاف ما كانوا يكسبونه
بشكل تقليدي من أراضيهم. لقد سمعنا هذه الشكاوي تتكرر ـ بالنسبة العمال الهنود
والصينيين أو العرب قبل ذلك بخمسين أو ستين عاما. كما سمعنا ـ وهذا ما يثبت
المساواة في الجوهر بين جميع العروق البشرية- بالنسبة للعمال الأوروبيين من
فرنسيين وبلجيكيين وإنجليز وألمان في القرن السابع عشر أو الثامن عشر. إن المسألة
لا تعدو هذه الحقيقة: ما من إنسان يحب، في الأحوال العادية، بحكم تكوينه الطبيعي
والعصبي، أن يحبس مدة ثمان أو تسع أو عشر أو أثنى عشر ساعة في اليوم في معمل أو
مصنع أو منجم. ولا بد فعلا من قوة، من ضغط غير عاديين تماما واستثنائيين للوصول
إلى شخص لا يعتاد هذا العمل الشاق وإجباره على القيام به.
أما
الأصل الثاني، أي ثانية خصائص نمط الإنتاج الرأسمالي: تركز وسائل الإنتاج في صورة
احتكار بيد طبقة اجتماعية واحدة، هي الطبقة البرجوازية. إن هذا التركز ما كان يمكن
أن يتحقق عمليا لو لم يكن ثمة ثورة مستمرة في وسائل الإنتاج، لو لم تصبح هذه
الوسائل أكثر تعقيدا، وأغلى ثمنا باطراد، على الأقل فيما يتعلق بالحد الأدنى من
وسائل الإنتاج لإمكان البدء بمشروع كبير (نفقات التأسيس الأولى).
لقد كان
في الطوائف (الأصناف) الحرفية ومهن القرون الوسطى استقرار كبير في وسائل الإنتاج.
فأنوال النسيج تنتقل من الأب إلى الابن، ومن جيل إلى جيل. كانت قيمة أنوال النسيج
هذه منخفضة نسبيا، أي أن كل عامل في المهنة كان في وسعه أن يأمل بالحصول على ما
يبادل قيمة هذه بعد عمل عدد من السنوات. إن إمكانية تشكل احتكار ظهرت من الثورة
الصناعية، التي حركت نموا غير منقطع، متزايد التعقيد، في المكننة، مما يعني وجوب
توافر رؤوس أموال أكبر فأكبر ليمكن البدء بمشروع جديد.
ومنذ ذلك
الحين يمكن القول إن الوصول إلى ملكية وسائل الإنتاج يصبح مستحيلا بالنسبة
للأغلبية الساحقة من المأجورين والمستخدمين، وأن ملكية وسائل الإنتاج أصبحت
احتكارا في أيدي طبقة اجتماعية، تلك التي تتوافر لها رؤوس الأموال، واحتياطات من
رؤوس الأموال، والتي تستطيع أن تحقق تراكم رؤوس أموال جديدة لمجرد أنها تملك رؤوس
أموال. أما الطبقة التي لا تملك رؤوس أموال فمحكوم عليها بحكم وضعها هذا أن تبقى
على الدوام في حالة واحدة من العوز ومكرهة على العمل لحساب غيرها.
الأصل
الثالث، أو ثالثة خصائص الرأسمالية: ظهور طبقة اجتماعية ليس لها من وسائل لسد
حاجاتها إلا بيع قوة عملها لأنها لا تملك من الثروات إلاّ ذراعيها، وهي في الوقت
ذاته حرة ببيع القوة، فتبيعها للرأسماليين مالكي وسائل الإنتاج. ويسجل ذلك ظهور
الطبقة البروليتارية الحديثة.
إننا
أمام عناصر ثلاثة تتداخل وتتضافر. فالبروليتاريا، هي الشغيل الحر؛ إن هذا خطوة إلى
الأمام وخطوة إلى الوراء بآن واحد، بالنسبة لأقنان القرون الوسطى: خطوة إلى الأمام
لأن القن لم يكن حرّا (كان القن ذاته خطوة إلى الأمام بالنسبة للرقيق)، وما كان
يستطيع التنقل بحرية، وخطوة إلى الوراء لأن البروليتاري، خلافا لما كان عليه القن،
هو "حر" أيضا، أي أنه محروم تماما من الوصول إلى وسائل الإنتاج.
3- أصول البروليتاريا الحديثة وتعريفها
ينبغي أن
نذكر، بين الأسلاف المباشرين للبروليتاريا الحديثة، السكان المجتثين في القرون
الوسطى، وهم سكان لم يكونوا مرتبطين بالأرض، ولا منتظمين في المهن والطوائف
الحرفية في المراكز السكانية الصغيرة، فكانوا بالتالي سكانا تائهين، لا جذور لهم،
أخذوا يؤجرون ذراعيهم باليوم، وحتى بالساعة. وفي عدد غير قليل من مدن القرون
الوسطى، لا سيما في فلورنسا والبندقية وبروجس، بدأ يظهر "سوق العمل"
اعتبارا من القرن الثامن، التاسع أو العاشر، بمعنى أن الناس الفقراء الذين ليسوا
أعضاء في مهنة وليسوا صناع المعلم الحرفي، أي ليس لهم موارد رزق للمعيشة، كانوا
يتجمعون صباح كل يوم في زاوية من المدينة، ينتظرون أن يستأجر بعض التجار أو
المتعهدين خدماتهم لساعة أو لنصف يوم أو ليوم كامل، الخ.
وأصل ثان
للبروليتاريا الحديثة، أقرب إلينا، هو ما سمي انحلال الحواشي الإقطاعية، أي
الانحطاط الطويل البطيء، لطبقة النبلاء الإقطاعية، الذي بدأ اعتبارا من القرنين
الثالث عشر والرابع عشر وانتهى مع الثورة البرجوازية في فرنسا، حوالي نهاية القرن
الثامن عشر. ففي مطلع القرون الوسطى كان يوجد أحيانا خمسون أو ستون أو مائة أسرة
أو ما يزيد يعيشون مباشرة على حساب السيد الإقطاعي. وأخذ عدد هؤلاء الخدم الأفراد
يتقلص، لاسيما خلال القرن السادس عشر، الذي تميز بارتفاع كبير جدا في الأسعار،
وبالتالي بافتقار كبير جدا لكل الطبقات الإجتماعية ذات الدخول النقدية الثابتة،
بما فيها طبقة النبلاء الإقطاعية في أوروبا الغربية التي كانت قد استبدلت بصورة
عامة الريع العيني بريع نقدي. وكان من نتائج هذا الافتقار تسريح جزء كبير من
الحواشي الإقطاعية بالجملة. فوجد على هذا النحو آلاف من الخدم السابقين، من كتاب
النبلاء سابقا، يهيمون على الطرقات ويصبحون شحاذين..الخ.
وثمة أصل
ثالث للبروليتاريا الحديثة هو طرد جزء من قدماء الفلاحين من أرضهم نتيجة تحويل
أراض زراعية إلى مروج. وقد كتب توماس مور، الطوباوي الإنجليزي، منذ القرن السادس
عشر، هذه العبارة الرائعة: "لقد أكلت الخروف البشر" أي أن تحويل الحقول
إلى مروج بغية تربية الخراف، المرتبطة بصناعة الصوف، قد أفضى إلى طرد آلاف وآلاف
من الفلاحين الإنجليز من أراضيهم وحكم عليهم بالجوع.
وهناك
أصل رابع للبروليتاريا الحديثة كان دوره أقل أهمية في أوروبا الغربية، ولكنه لعب
دورا هاما في أوروبا الوسطى والشرقية، في آسيا وفي أمريكا اللاتينية وفي إفريقيا
الشمالية: هو تدمير الحرفيين السابقين نتيجة معركة المنافسة بين طبقة الحرفيين
والصناعة الحديثة التي كانت تشق من الخارج طريقها إلى هذه البلاد المتخلفة.
ولنلخص:
إن نمط الإنتاج الرأسمالي هو نظام تصبح فيه وسائل الإنتاج احتكارا في يد طبقة
اجتماعية، يكون فيه المنتجون أحرارا، ولكنه بفصلهم عن وسائل الإنتاج هذه حُرموا من
أية وسيلة من وسائل العيش، وهم مكرهون بالتالي على بيع قوة عملهم إلى مالكي وسائل
الإنتاج ليمكنهم الاستمرار في العيش.
إن ما
يميز البروليتاري ليس في الأساس انخفاض أو ارتفاع مستوى أجره، بل بالأحرى كونه
مقطوعا عن وسائله في الإنتاج، أو أنه لا يملك دخولا تكفي ليعمل لحسابه الخاص.
وإذا
أردنا أن نعرف ما إذا كانت الظروف والشروط البروليتارية في طريقها إلى الزوال، أو
أنها بالعكس في طريقها إلى التوسع، فإن ما ينبغي علينا أن نتفحصه ليس متوسط أجر
العامل أو متوسط مرتب المستخدم، بل أن نجري مقارنة بين هذا الأجر ومتوسط استهلاكه،
بعبارة أخرى إمكانيته للادخار مقارنة بنفقات التأسيس الأولى لمشروع مستقل. فإذا
تبين لنا أن كل عامل وكل مستخدم يستطيع، بعد أن يعمل عشر سنوات، أن يدخر حولي 10
أو 20 أو 30 مليون، مما يمكنه من شراء مخزن أو ورشة صغيرة، يمكننا عند ذلك القول
أن الشروط البروليتارية في طريقها إلى التقهقر وأننا نعيش في مجتمع تتجه ملكية
وسائل الإنتاج فيه إلى الانتشار والتعميم.
أما إذا
تبين لنا، على العكس من ذلك، أن الأغلبية الساحقة من الشغيلة والعمال والمستخدمين
والموظفين، يبقون بعد حياة من العمل الجاد على ما كانوا عليه سابقا، أي عمليا بلا
وفورات وبلا رؤوس أموال تكفي لاكتساب وسائل إنتاج، يمكن أن نخلص إلى أن الظروف
والشروط البروليتارية قد انتشرت وتعممت بدلا من أن تتقلص، وأنها اليوم أكثر اتساعا
مما كانت قبل خمسين عاما، وإذا رجعنا على سبيل المثال إلى الإحصاءات المتعلقة
بالبنية الاجتماعية في الولايات المتحدة يتبين لنا أن النسبة المئوية من السكان
العاملين الأمريكيين الذين يعملون لحسابهم الخاص، المصنفين كأرباب عمل (منظِمين)
أو كمساعدين لهم من نفس العائلة، تنخفض منذ ستين عاما مرة كل خمس سنوات بلا
انقطاع، بينما تزداد بانتظام، من خمسة إلى خمسة سنوات، النسبة المئوية من هؤلاء
السكان التي أصبحت مكرهة على بيع قوة عملها.
وإذا
تفحصنا من جهة أخرى الإحصاءات المتعلقة بتوزيع الثروة الخاصة يتبين لنا أن الأغلبية
الساحقة من العمال، لعلها 95%، والأغلبية الساحقة من المستخدمين (80 أو 85%) لا
تتوصل إلى تكوين ولو ثروات صغيرة أو رأسمال صغير، أي أنهم ينفقون كل دخلهم، وأن
الثروات تنحصر في الواقع في جزء صغير جدا من السكان. ففي معظم البلاد الرأسمالية
يملك 1%، 2%، 2,5%، 3,5% ، 5% من السكان 40%، 50%، 60% من الثروة الخاصة في البلد،
ويكون الباقي في أيدي 20 أو 25% من هؤلاء السكان. إن الفئة الأولى من المالكين،هي
البرجوازية الكبيرة، والفئة الثانية هي البرجوازية المتوسطة والصغيرة. وكل من هم
خارج هاتين الفئتين لا يملكون عمليا سوى سلع استهلاكية (بما فيها أحيانا بيت
للسكن).
إن
الإحصاءات المتعلقة بحقوق الإرث، والضرائب على التركات، ذات دلالة كبيرة في هذا
الصدد عندما تكون صحيحة.
إن دراسة
دقيقة أجريت في بورصة نيو يورك من قبل مؤسسة بروكينغز Brookings (وهي مصدر لا يشك أحد أنه
ماركسي) تكشف أن ليس في الولايات المتحدة إلا 1% و2% من العمال يملكون أسهما، وأن
هذه "الملكية" تبلغ الألف دولار في المتوسط أي ما يعادل 5 ألف فرنك
جديد.
إن رأس
المال بكامله تقريبا هو في أيدي البرجوازية، وهذا يكشف لنا آلة التجدد الذاتي
للنظام الرأسمالي: إن من يملكون رؤوس أموال يستطيعون أن يراكموا منها أكثر فأكثر،
ومن لا يملكون رؤوس أموال لا يستطيعون الوصول إلى تملكها. وهكذا يستمر انقسام
المجتمع إلى طبقة مالكة وطبقة مكرهة على بيع قدرتها على العمل. وثمن قوة العمل
هذه، أي الأجرة، يستهلك بكامله من الناحية العملية، بينما تملك الطبقة المالكة رأس
مال يزداد باستمرار بسبب فائض القيمة. إن إثراء المجتمع برؤوس الأموال إنما يجري،
إذا صح القول، لصالح طبقة واحدة من طبقات المجتمع وحسب، هذه الطبقة هي الطبقة
الرأسمالية.
4- آلية الإقتصاد الرأسمالي الأساسية
والآن
كيف تسير الآلية الأساسية لهذا المجتمع الرأسمالي؟
إذا
ذهبتم يوما إلى بورصة القطن المصبوغ، فإنكم لن تعرفوا على وجه الدقة ما إذا كانت
كمية القطن المصبوغ المتاحة مساوية للحاجات الموجودة في فرنسا في تلك الفترة أم
أقل منها أو أكثر. ولن يتبين لكم الأمر إلاّ بعد مضي فترة من الوقت. أي أنه عندما
يوجد فرط الإنتاج، عندما يبقى جزء من الإنتاج غير مبيع، فسترون أن الأسعار تنخفض،
وعلى العكس ترتفع الأسعار عندما يوجد نقص في الإنتاج. وما دام لا يُعرف إلاّ بعد
فوات الوقت ما إذا كانت كل كمية العمل المبذولة في فرع من فروع الصناعة قد استخدمت
بالشكل الضروري اجتماعيا أو أنها بددت جزئيا، فإنه لن يمكن تحديد القيمة الصحيحة
للسلعة إلاّ بعد فوات الوقت. فهذه القيمة هي بالتالي، إذا صح التعبير، فكرة مجردة،
إنها ثابتة Constante تتقلب الأسعار حولها.
ما الذي
يحرك هذه الأسعار، وبالتالي، ما الذي يحرك، على المدى الطويل بالنتيجة، هذه القيم،
هذه الإنتاجية (إنتاجية العمل)، هذا الإنتاج وهذه الحياة الإقتصادية في مجموعها؟
ما الذي
يحرك المجتمع الرأسمالي؟ إنها المنافسة. ليس من مجتمع رأسمالي بدون منافسة. إن
مجتمعا تلغي منه المنافسة كليا وجذريا وتماما هو مجتمع لا يكون مجتمعا رأسماليا
بقدر ما لا يعود قائما فيه المحرك الاقتصادي الرئيسي لأجل مراكمة رأس المال،
وبالتالي القيام ب 10/9 العمليات الاقتصادية التي يقوم بها الرأسماليون.
على مَ
تقوم المنافسة؟ في أساس المنافسة نجد مفهومين لا يتطابقان بالضرورة. فهناك أولا
مفهوم السوق غير المحدود، السوق غير المنغلق تماما، وهناك مفهوم تعدد مراكز البت،
بصورة خاصة في مجال التثمير والأرباح.
ولو وجد
تركز كلي للإنتاج كله في قطاع صناعي بين يدي منشأة رأسمالية واحدة، فلا يعني ذلك
إلغاء المنافسة تماما، لأن السوق غير المحدود ما يزال موجودا، وسيكون هناك على الدوام،
صراع تنافسي بين هذا القطاع الصناعي وقطاعات صناعية أخرى بغية احتكار جزء كبير إلى
هذا الحد أو ذاك من السوق. وثمة احتمال على الدوام في رؤية منافس جديد يعاود
الظهور في هذا القطاع بالذات، متسللا من الخارج.
والعكس
صحيح. فلو أننا تصورنا سوقا يكون محدودا كليا تماما، ولكن فيه عددا كبيرا من
المشروعات تتصارع لاحتكار جزء من هذا السوق المحدود، فمن الواضح أن المنافسة تبقى
محدودة.
إن
المنافسة لا يمكن أن تلغي كليا إلاّ إذا ألغيت هاتان الظاهرتان في آن معا، أي إذا
لم يعد يوجد إلاّ منتج واحد لكل السلع، وإلاّ إذا أصبح السوق مستقرا بشكل مطلق،
متخثرا وغير قادر على التوسع.
إن معنى
ظهور السوق غير المحدود يتوضح تماما بالمقارنة مع عهد الإنتاج السلعي الصغير. إن
المنظمات المهنية في القرون الوسطى كانت تعمل من أجل سوق محدود، بصورة عامة، في
المدينة وضواحيها المباشرة، وتتبع تقنية في العمل متخثرة ومحددة تماما.
إن
الانتقال التاريخي من السوق المحدود إلى السوق غير المحدود يوضحه مثل "صناعة
الأجواخ الجديدة" في الريف، التي حلت في القرن الخامس عشر محل صناعة الأجواخ
القديمة التي كانت قائمة في المدينة. بذلك أصبح لدينا معامل الأجواخ غير مقيدة بقيود
النظم الحرفية، دون قيود على الإنتاج، أي دون تقييد على التصريف، تحاول أن تتسلل
بحثا عن الزبائن في كل مكان، ليس في الأمكنة المتاخمة لمراكز الإنتاج فقط، بل
تحاول تنظيم التصدير حتى إلى بلاد بعيدة جدا. ومن جهة أخرى تسببت الثورة التجارية
الكبرى في القرن السادس عشر في انخفاض نسبي في أسعار مجموعة من المنتجات، كانت
تعتبر منتجات على جانب عظيم من الترف في القرون الوسطى، ولم يكن يقدر على شرائها
سوى جزء قليل من السكان. هذه المنتجات أصبحت فجأة عند حدود تلك الثورة أقل غلاء
بكثير، إن لم تكن قد أصبحت في متناول جزء هام من السكان. وأبرز مثال على ذلك هو
السكر، الذي هو اليوم مادة شائعة، لا تستغني عنها اليوم بلا شك أسرة أي عامل في
فرنسا وأوروبا، ولكنها في القرن الخامس عشر كانت ما تزال تعتبر منتجا بالغ الترف.
إنّ
مدّاحي الرأسمالية يذكرون دوما بحسنات هذا النظام التي خفضت أسعار مجموعة من
المنتجات ووسعت السوق أمامها. إنها حجة صحيحة. إنها مظهر مما يسميه ماركس
"المهمة التمدينية لرأس المال". ومن المؤكد أن الأمر يتعلق بظاهرة جدلية
ولكنها فعلية، تعمل بحيث وإن تكن قيمة قوة العمل تنزع إلى الانخفاض بسبب أن
الصناعة الرأسمالية تنتج بسرعة متزايدة السلع التي تكافئ الأجر، إلاّ أن قيمة قوة
العمل هذه تنزع بالمقابل إلى التزايد، لأنها تشمل بصورة متزايدة قيمة جملة من
السلع تصبح سلعا ذات استهلاك واسع بين الجماهير، بينما لم تكن في الماضي غير سلع
استهلاكية لجزء صغير من السكان.
والحق أن
كل تاريخ التجارة بين القرن السادس عشر والقرن العشرين هو تاريخ التحول المطرد من
تجارة الترف إلى التجارة الجماهيرية، تجارة سلع موجهة لجزء متوسع باطراد من
السكان. ولم يتم ربط العالم بمجموعه في سوق حقيقية مفتوحة لكل منتج رأسمالي كبير
إلا مع نمو السكك الحديدية، ووسائل الملاحة السريعة، والمواصلات البرقية وسواها.
إن مفهوم
السوق غير المحدود لا يتضمن إذن التوسع الجغرافي وحسب، بل والتوسع الاقتصادي ونمو
القوة الشرائية المتاحة. لنورد مثلا حديثا، إن القفزة السريعة في إنتاج السلع
الاستهلاكية المعمِّرة، في الإنتاج الرأسمالي العالمي خلال السنوات الأربع عشر
الأخيرة، لم تتحقق أبدا عن طريق التوسع الجغرافي للسوق الرأسمالية، بالعكس فإنها
قد اقترنت بتقلص جغرافي في السوق الرأسمالي، إذ خرجت منه مجموعة من البلاد في هذه
الفترة. ليس ثمة، أو إذا وجد فعدد قليل، سيارات فرنسية أو إيطالية أو ألمانية أو بريطانية
أو يابانية أو أمريكية تصدر إلى الإتحاد السوفييتي أو إلى الصين أو فيتنام أو كوبا
أو كوريا الشمالية أو بلاد أوروبا الشرقية. ورغم ذلك فإن هذا التوسع قد تحقق لأن
جزءا أكبر بكثير من القوة الشرائية المتاحة، المتزايدة هي أيضا، قد استخدم لشراء
السلع الاستهلاكية المعمرة هذه. وليس من قبيل الصدفة أن يقترن هذا التوسع بأزمة
زراعية دائمة إلى هذا الحد أو ذاك في البلاد الرأسمالية المتقدمة، حيث لم يقتصر
الأمر فقط على عدم حدوث تزايد نسبي في استهلاك جملة من المنتجات الزراعية، بل أخذ
هذا الاستهلاك نفسه يتناقص بصورة مطلقة، مثال ذلك استهلاك الخبز والبطاطا والفواكه
والتفاح والإجاص، الخ.
إن
الإنتاج من أجل سوق غير محدود، في ظروف المنافسة، يؤدي إلى تزايد الإنتاج، لأن
تزايد الإنتاج يتيح تخفيض أسعار التكلفة ويتيح بالتالي التغلب على المنافس عن طريق
البيع بأسعار أقل منه.
لا جدال
في أن ثمة انخفاضا كبيرا في القيمة قد حدث، إذا نظرنا إلى تطور قيمة كل السلع
المنتجة، على مقياس واسع في العالم الرأسمالي، في الأجل الطويل. ثمة بدلة أو سكين
أو حداء أو دفتر الطالب - وقيمة هذه الأشياء الآن مقوّمة بساعات ودقائق عمل هي أقل
بكثير مما كانت عليه منذ خمسين أو مائة عام.
وينبغي
بطبيعة الحال مقارنة القيمة الحقيقية في مرحلة الإنتاج لا أسعار البيع التي تشمل
إمّا نفقات جسيمة للتوزيع والبيع أو أرباحا مفرطة احتكارية متضخمة. لنأخذ البترول
على سبيل المثال، وبخاصة البترول الذي نستخدمه في أوروبا، البترول المصدر من الشرق
الأوسط. إن نفقات الإنتاج منخفضة جدا، إذ تبلغ بالكاد 10% من سعر البيع.
إن من
الثابت في كل الأحوال أن هذا السقوط في القيمة قد حصل فعلا. إن تزايد إنتاجية
العمل تعني انخفاض قيمة السلع، لأن هذه يتم صنعها في وقت عمل يتناقص باستمرار. تلك
هي الأداة العملية التي تملكها الرأسمالية لتوسيع السوق والتغلب في المنافسة.
بأي
أسلوب عملي يستطيع الرأسمالي في آن واحد أن يخفض بدرجة كبيرة سعر الكلفة ويزيد
بدرجة كبيرة الإنتاج؟ عن طريق تنمية المكننة، تنمية وسائل الإنتاج،إذن تنمية وسائل
الإنتاج الآلية المتزايدة التعقيد باطراد، المحركة أولا بطاقة البخار، ثم بطاقة
البترول أو المازوت، وأخيرا بالكهرباء.
تعليقات: 0
إرسال تعليق