-->

تجليات الخوف في الصحافة (3)


الخوف في الصحافة و الخوف منها و التخويف بها


   إن الخوف في مجال الصحافة يحمل عدة أبعاد كون الصحافة تمس المجال العام (public sphere)  . فالخوف في الصحافة ينشأ في الصحافة نفسها إما على المستوى الفرد (الصحفي) أو المؤسسة. والخوف من الصحافة يمس المؤسسة السياسية و القطاعات المتأثرة أو المتضررة بالصحافة. أما التخويف بالصحافة، فهو استخدام الصحافة كأداة في "نقل" الخوف إلى الآخرين وفق أهداف محددة مسبقا.
     يعتبر شومسكي (Noam Chomsky) [1]  أن الخوف الذي مصدره التخويف  يتم فبركته بصفة مقصودة بقصد زيادة المراقبة الاجتماعية في أوساط المجتمع أو الرأي العام الذي "لا يوثق فيه." ويشاركه الرأي العالم الاجتماعي قلاسنر (Barry Glassner) و المخرجون السينمائيون أمثل مور (Michael Moore) صاحب الفيلم الجدلي "حرارة 11 أيلول" (Fahrenheit 9/11) و كوتس (Adam Curtis) . و يرى هؤلاء أن الهدف من التخويف المستمر و المتكرر "إنتاج سلوك معين، وتبرير ساسيات الحكومة و أفعالها (داخليا وخارجيا)، وجعل الناس ينهمكون في الاستهلاك، انتخاب السياسيين الديماغوجيين و إبعاد أنظار المجتمع عن القضايا الاجتماعية الملحة كالفقر و الضمان الاجتماعي و البطالة و الحد من انتشار الأسلحة و التلوث."[2]      
    و يقع في الجانب الآخر من يرى أن "الخوف" إحساس أو ظاهرة مبنية في الحياة المعاصرة. و يعيد العالم الاجتماعي فرودي (Frank Furedi)  الخوف إلى ما سماه "فشل في الخيال التاريخي،" وهو أحد أعراض "استنزاف نظم المعنى السياسي في القرن العشرين.[3]  ويرى فرودي أن الثقافة تتدخل في طريقة الاستجابة للخوف، فبعض الثقافات تستجيب بالذعر (كبريطانيا و ألمانيا ) و أخرى بالهدوء المحسوب (كفرنسا و بلجيكا).  و يضيف أن "الصحافة و السياسيين يمكن أن يضاعفوا أو يستغلوا هذا الإحساس ولكن ذلك لا يكون أمرا حاسما في إنتاج الثقافة."[4]        
     والخوف في الصحافة أمرا في الصحافة ذاتها. فقد يعود هذا الخوف إلى الفرد (أي من سمات شخصيته) و ما اكتسبه ذاتيا في المؤسسة. ويمكن أن يكون وليد المؤسسة الإعلامية و آلتها التنظيمية والبيروقراطية.    
    ويصف أحد الصحفيين خوفه من الكتابة بقوله:
          ولأن الخوف ليس واحدا أريد أن أفصل قليلا داخل خيط قماشته نفسها، فهناك الخوف الذي انتابني أثناء كتابة المقال، و الخوف الذي شعرت به يوم نشر المقال و انتظار ردة الفعل... و الخوف يوم وصول الاستدعاء... و الخوف الذي تولده التجربة و تتركه في النفس بعد انتهائها، ومدى تأثيره في المباشرة بكتابة مقال جديد، أو الصمت و الانتظار حتى تنتهي آثار تلك التجربة... ولأنني خضت تجربة الخوف من أبسط أشكالها الغريزية، و تعاملت مع أقصى تجلياتها إلى حد إصابتي بمرض السكري ...[5]           
     وأظهر تحقيق في أوساط 273 مراسلا محليا في الجزائر أن 60% من هؤلاء  يعترف  بممارسة الرقابة الذاتية في كتاباتهم "خوفا من المخاطر التي تلاحقهم، و خوفا من عدم نشر مقالاتهم من قبل المؤسسات الإعلامية المستخدمة، ومخافة فقدانهم لبعض الامتيازات."[6] و يضيف التحقيق أن "ضعف الحماية الاجتماعية للمراسلين يطرح إشكالية غياب الضمانات القانونية للمراسل في مواجهة مخاطر المهنة ...(التي) تصل إلى حد تهديد حياة المراسل... وقد وصلت المخاطر المحدقة ببعض المراسلين إلى حد الانتحار ... (وقبل ذلك) اغتيل و اختطف عدد من المراسلين في إطار انهيار الأوضاع الأمنية التي كانت تعيشها الجزائر لأكثر من عشرية من الزمن."[7] 
 
     و يتجلى الخوف من في الصحافة  العربية[8] في عد أشكال:
1. تجاهل "الحدث" الذي يمس أو يهز صورة المؤسسة الرسمية حتى وإن كان الحدث ذو أبعاد على مستويات عدة[9] كمثل تجاهل "تظاهرة" وقعت بالفعل إما للتعبير عن تذمر في العلاقة مع قضية محددة أو للتعبير عن تضامن مع قضية خارجية.
2.  التقليل من شأن الحدث[10]، كالحديث عنه على هامش مواضيع تطرح على أنها أكثر أهمية، وكأن يذكر الموضوع مثلا في صفحة داخلية بدل الصفحة الأولى في الجريدة.
3. انتقاء جزئيات الحدث التي تدعم التفسير أحادي الاتجاه للحدث، أي تفصيل الحدث وفق مقاس صانع القرار.
4. "تشويه" الحدث بوصفه بالعرقلة و المساس بالأمن العام و أحيانا إدخاله في خانة العصيان و مخالفة القوانين و الأعراف السائدة.
5. "حجب" المعلومات عن الحدث و الارتكان إلى الصمت و عدم التعليق أملا في أن تزول السحابة تلقائيا.
     إن هذه الآليات الحاضرة قد تصبح في المستقبل القريب غير فاعلة بفعل انتشار تكنولوجيا الاتصال و تزايد قدرة الجمهور على إعادة قراءة الخطاب الإعلامي الرسمي. فقد أصبحت الإنترنت و البريد الإلكتروني ورسائل النقال  وسائل حديثة في نشر أو الحديث عن الأحداث التي تغيب في وسائل الإعلام الرسمية إضافية إلى سهولة مشاهدة القنوات الفضائية المتعددة. 
6. غياب أبرز نوع من فنون الصحافة وهو "تحقيق التحري" (investigative reporting) . ويعتبر هذا الفن وسيلة أساسية في تحقيق "الشفافية" (transparency)   و "المحاسبية" (accountability)   المطلوبة في المؤسسات و المجتمع على حد سواء. وكان هذا الفن سببا في ارتقاء عدد من البرامج الإعلامية في المؤسسات الغربية كمثل برنامج "60 دقيقة" (60 Minutes) الذي تبثه قناة سي،بي،آس (CBC) الأمريكية. فالصحافة بهذه الفن تلعب دور "المتتبع الناقد" لأداء السلطة التنفيذية مما يكسب الصحافة صفة السلطة الرابعة (The Fourth Estate).      
7. ترتيب الأوليات بطريقة تجعل بعض الأحداث مثل نشاط الرئيس و أعوانه محور التغطية الإعلامية. ومما هو معروف أن نشاط الشخص المسؤول قد يكون الخبر في  ذاته كما يبرز ذلك في شروط الخبر، أي الشهرة (prominence)،ولكن أن يغطي ذلك كل الخبر تقريبا أو يطغى على أخبار أخرى ذات قيمة خبرية بينة فذلك أشبه ما يكون بالعلاقات العامة التي ليست في محلها. وعامة، فإن الجمهور "النشط" يدرك هذه المعادلة فيمارس ما يعرف بالانتقاء التصوري  (selective perception) في هذه الحالة.      
     ويمكن أن يتم استخدام الصحافة في التخويف أيضا، ويشمل ذلك:   
1.    التركيز على "العقاب" الذي "يسلط" على المخالفات "الصغيرة" المتكررة يوميا كالسائق المتهور وسارق  المتجر و متسكع  الشارع والشاب المغازل، وبالطبع فإن هذه السلوكيات مذمومة بذاتها ولكنها ليس بالِشأن الكبير بالمقارنة.
2.    إمطار "القارىء" المستمر و تذكيره بجملة  الإجراءات و القوانين الجديدة التي تحد من هذه الظاهرة و تلك و معظمها يصب في مجال تضييق حركة الفرد و نشاطه و مشاريعه أيا كانت.
3.    تكوين صورة ذهنية "تشاؤمية" عن الأوضاع الاقتصادية و إيهام القارئ أن ذلك الأمر نتيجة ظروف دولية خارجة عن السيطرة ومن باب إذا عمت "المصيبة" خفت. يترتب عن ذلك مطالبة "المواطن" تحمل تزايد تكاليف المعيشة و المساهمة بتحمل أعبائها باستمرار دون مساءلة.
4.    "تضخيم" الأخطار و التهديدات على الأمن العام و المصلحة الوطنية و استحضار "العدو" سواء أكان حقيقيا أو وهميا كلما دعت الحاجة إلى ذلك.
       و يدخل في هذه المعادلة التخويف" الذي تنقله الصحافة العربية عن الصحافة العالمية و الموجه إلى المنطقة العربية و الإسلامية والذي مفاده "إذا لم تكن معنا فأنت ضدنا." و يشمل ذلك:
1. نقل "التهديد و الوعيد" الذي يأتي على لسان صناع القرار في البلدان الغربية و الموجهة ضد هذا البلد العربي أو الإسلامي أو ذاك. وإذا كان خطاب "التخويف" هذا يصاغ لكل بلد على حدة مرحليا،  فإنه يتوسع مع الزمن ويشمل أكثر من بلد وفق نفس الاسترتاتيجية.
2. تبنى نفس المنطق الذي يقدمه صناع القرار في البلدان الغربية في تبرير هذا الخطاب "التخويفي." فمثلا إذا ورد في تبرير هؤلاء أن هذا البلد أو ذاك لا يحترم حقوق الإنسان سارت الصحافة العربية في المسار نفسه تقريبا وقد تجد لنفسها ما يبرر ذلك فتفصل في الموضوع و تعقد لقاءات و ندوات جول الموضوع ذاته حتى تقتنع بهذا التبرير ذاتيا، وكأن هذه الصحافة أشبه ما تكون بصنف جديد من "الببغاء ."                
3. اتخاذ موقف الدفاع أو الانهزامية في التعامل مع الأوصاف و الاتهامات التي تردها الصحافة الغربية عن المنطقة العربية و الإسلامية.  فإذا كان الوصف هو "العنف" عمدت الصحافة العربية إلى العمل تحت تأثير هذا الاتهام وكأن العنف سمة المنطقة بالفعل. وفي غياب الثقة في النفس، تكاد هذه الصحافة "تصدق" ما يرد عن المنطقة من أوصاف خاصة إذا كانت بعض الشواهد الظرفية تصب في اتجاه تلك الأوصاف.
     والمعروف أن جزءا من الصحافة الغربية يعكس تلك الصور النمطية التي كان يولها هولويود[11] عن العرب و المسلمين باستمرار على أنهم "أوغاد، إرهابيون، كسولون، همجيون، ملتحون متعطشون للجنس يغتصبون الشقراوات، يمولون الإرهاب، يقتلون المدنيون و يستهدفونهم في مدنهم و دور السينما و يحضرون لتدمير المدن بالأسلحة البيولوجية و النووية..."[12]         
    إن الخوف و التخويف في الصحافة يقود إلى تحديد العوامل التي  ولدت هذه الحالة المرضية، و بمعنى آخر، لماذا الخوف في عالم الصحافة العربية؟  يمكن إعادة هذه الظاهرة إلى ما يلي: أ)  "الجهل" بإمكانيات الأمة و قدراتها ورصيدها التاريخي في شتى المجلات. والمعروف حتى في دراسة مصادر السلطة أن سلطة الشخصية "السلطوية"مستمدة من إذعان الرعية وليس في الشخص ذاته. ويؤدي  "الجهل" إلى وضع كل أوراق الحل في أي قضية في يد الطرف الآخر الذي يظهر أنه الأقوى. وبتعبير ابن خلدون في سياق مماثل "فإن المغلوب يقلد الغالب." و يتزامن ذلك مع سعي جزء من الإعلام الغربي الموجه للشعوب العربية و الإسلامية إلى "انتزاعها من واقعها و ترويج النموذج و القيم الغربية في الاستهلاك، و التفكير و الاعتقاد، و إحداث تغيير في البنية العامة و السياسية و الثقافية بما ينسجم مع المصالح الغربية."[13]  ب) العجز: و يتعلق ذلك بتحييد أو إبطال الطاقة الكامنة في الفرد و الأمة تصبح هذه الأخيرة رغم كثرتها  "كغثاء السيل." ج)  فقدان الإحساس بالهوية: و يخص ذلك عزل الفرد (أو الجماعة)  عن انتمائه و رصيده قيميا و ثقافيا و اجتماعيا و تاريخيا فيتحول إلى حالة منعزلة "في مهب الريح." و د)  فقدان الثقة في النفس و الشعور بالدونية  في العلاقة مع الآخر: و يمثل ذلك إحساس الفرد (أو الجماعة)  بالنفور أو الاغتراب عن الذات و رؤية ما لا يملكه أو ما يرغبه في الآخر. وقد وصف مالك ابن نبي هذا الإحساس في العلاقة مع المستعمر "بالقابلية للاستعمار."




[1] وهو يرى في كتابه "صناعة الاجتماع" (Manufacturing Consent)  أن الإجماع تجاه القضايا المحلية و الدولية يتم صناعته من طرف وسائل الإعلام بتقنيات دعائية متعددة. والكتاب دراسة ميدانية عن الموضع ذاته بالتركيز على قضايا أمريكا اللاتينية في الصحافة الأمريكية.
[2] انظر في هذا الشأن:
Culture of Fear, in  http://en.wikipedia.org/wiki/Culture_of_fear
[3] من كتبه:
Culture of Fear: Risk-taking and the Morality of Low Expectations (1997)
Politics of Fear: Beyond Left and Right (2005)
[4] Culture of Fear , in Ibid
[5] "كتاب في الخوف لحكم البابا،" في
http://ww.metransparent.com/texts/hakam_baba_book_about_fear.htm
[6] رضوان بوجمعة ، "المراسلون المحليون في الصحافة المكتوبة: دراسة سوسيو مهنية لمراسلي الصحف في الجزائر،" المجلة الجزائرية للاتصال،  العدد 19، جانفي – جوان، 2005، ص. 115.
[7] ن،م،س، ص. 114.
[8] أما في وسائل الإعلام الغربية فهناك آليات أخري ذكرها شومسكي و مور و غيرهم و منها:
-تشويه الإحصائيات.
-تحريف الكلمات عن مواضعها.
-ترسيخ الأفكار المسبقة و التحيز تجاه الأقليات.
-تعميم القضايا المعقدة و المتعددة الأبعاد.
-قلب معادلة السبب و النتيجة فبصبح السبب نتيجة و النتيجة سببا.
 انظر في هذا الشأن:
Culture of Fear, in  http://en.wikipedia.org/wiki/Culture_of_fear
[9] فمثلا، عندما وقعت أحداث 5 أكتوبر 1987 في الجزائر العاصمة وتم خلالها إحراق العشرات من المؤسسات العامة لم تتناولها الصحافة لأيام إلا بعد أن شاعت في وسائل الإعلام الفرنسية و خاصة المسموعة و المرئية.   
[10] ما يكتب على اِلإنترنت على انفونزا الطيور يجعل الموضوع أكثر جدية مما يظهر في وسائل الإعلام العربية الرسمية حتى على مستوى ذكر الحقائق فقط. 
[11] كفيلم "الصامت" سنة 1917 و "الشيخ" سنة 1921، و"أرابيسك" سنة 1966، و "تحت الحصار" سنة 1968، و"ذعر الإرهاب " سنة 1987. 
[12] مي العبد الله، محمد الخولي، الإعلام و القضايا العربية بعد 11 أيلول:2001: نحو خطاب إعلامي عربي جديد ، دار النهضة العربية، بيروت، لبنان، 2002، ص. 54.
[13] ن . م.س

جديد قسم : press

إرسال تعليق