-->

تجليات الخوف في الصحافة (2)








الخوف في الصحافة: بعض المفاهيم النظرية


     إن الخوف في الصحافة وإن كان متعدد الأبعاد فهو يخص الخوف من الرقابة سواء أكانت هذه قبلية (pre-control publication)   أو  بعدية (post-publication control) .  و"الرقيب" قد يكون محددا كأن تكون وزارة أو قضاء أو سلطة أمنية، الخ.  و قد لا يكون معروفا و إنما يبرز في شكل أوامر من جهة ما. إن مثل هذا الخوف وإن كان مبررا ظاهريا فإنه حالة مرضية تعطل أو تبطل مفعول الصحافة ووظائفها في المجتمع.  ويمكن تعريف الخوف في الصحافة عامة بأنه التصور الذي يحمله الصحفي (أو حتى مؤسسته) وهميا أو حقيقيا عن المخاطر المحدقة بالنتائج المترتبة عن تناول موضوع يمس طرفا أو أطرافا ذات نفوذ في المجتمع. و يتضمن الخوف في الصحافة أيضا الخوف من الصحافة و التخويف بها. فالخوف في هذه السياق حالة ضعف سواء كان ذلك على مستوي الفرد أو المؤسسة الإعلامية. وقد يكون الخوف حالات محددة و ذلك أيسر بالمقارنة و قد يكون مبثوثا بشكل غير مباشر في مضامين وسائل الإعلام فيتحول إلى جزء من سمات الخطاب الإعلامي السائد. إن الخوف الذي نعتمده في هذا الموضوع هو الخوف المرضي أو(phobia)  الذي يزيد عن حده و ينقلب بالسلب على الصحافة و الفرد و الأمة. 

الخوف في الصحافة: بعض الخلفية التاريخية

     ارتبط الخوف في الصحافة تاريخيا  بالخوف من الكلمة و بالأحرى المكتوب. فالخوف من المكتوب مرده الخوف من انتشار الفكرة أو الأفكار التي يصعب أو قد يستحيل التحكم في الأثر الذي يمكن أن تحدثه هذه الأخيرة  في أوساط "الرعية" أو عامة الناس. ويؤدي انتشار الفكرة أو الأفكار خاصة إذا كانت تعيد النظر في المسلمات إلى إضعاف سلطة الحاكم أو السلطة السياسية وإضفاء نوع من السلطة (empowerment)  على الآخر أيا كان.   فالمكتوب أوجد ثقافة جديدة صعب التحكم في مجراها و آثارها.  وكان ذلك المحرك في سيطرة الحاكم أو السلطة السياسية على هذه الوسيلة لحظة نشأتها خاصة في أوروبا بدءا بالقرن 16. وساد النظام أو النظرية السلطوية في الصحافة أوروبا في القرنين 16 و 17وظهرت جل الآليات الخاصة بالرقابة في تلك الفترة. و ارتكز هذا النظام على مبدأ "الضبط القبلي" (law of prior restraint)   ويعني ذلك أن تحدث الرقابة قبل النشر، فالموضوع ينشر بعد موافقة الجهة الرسمية مسبقا. والحاصل أن "السيطرة" عل الصحافة كان أيضا وليد البنية الذهنية التي سادت في التراث الغربي آنذاك من أنه ليس "للرعية" دور في العملية السياسية وأن السياسة مجال الخاصة كما نجد ذلك في أصول الفلسفة اليونانية قديما. و يبرز هذا المعنى كذلك عند ميكيافلي في كتابة "الأمير" والذي يعتبر  أن رأي "العامة" مهم بقدر ما يسمح للحاكم من اتقاء شره. وإذا، فإن الرقابة الصحفية نِشأت في أوروبا قبل أن تتكرر هذه الآليات في المنطقة العربية لاحقا. وقد اهتزت هذه البنية الذهنية في  أواخر القرن 17 وبداية  القرن 18 بإسهامات فلاسفة التنوير الذين أعادوا "منطق العقل" إلى "منطق الفرد" فأصبح الفرد في نظرهم مصدر الحكم و أداته. و ترتب عن ذلك أن ظهر الحديث عن "حرية التفكير" و "حرية الرأي" و "حرية الصحافة" كشرط في بناء "العقد الاجتماعي" الذي يحكم العلاقة بين الحاكم و المحكوم. و اعتبر ميل[1] مثلا أن حرية التفكير حقيقة عليا وأن لا مبرر لحجب الأفكار بحكم أن الفكرة الصحيحة تفرض نفسها على الفكرة الخاطئة في سوق حر للأفكار. واندرج ذلك فيما نعرفه بالنظرية اللبرالية في الصحافة. ثم نمت هذه النظرة الجديدة مجددا في عدد من المنظومات الإعلامية الغربية المعاصرة كالمسؤولية الاجتماعية (social responsibility theory) و الإعلام المرتبط بقضايا المجتمع (civic journalism)  في أمريكا و الخدمة العامة (public service) في أوروبا و اليابان.  
     إن خوف الحاكم من أثر الصحافة على تفكك آليات الضبط الاجتماعي آنذاك كان في محله، لكن هذا التفكك كان ضروريا "أو حتميا" أدى إلى إعادة بناء النظام الاجتماعي على أسس قائمة على مراعاة "جقوق الفرد" و المصلحة العامة. فقد أدى انتشار المكتوب في أوروبا مثلا إلى إضعاف سلطة الكنيسة والإقطاع وظهور الحركات الإصلاحية الدينية التي ارتبطت ب "لوثر" في ألمانيا و "كالفين" في فرنسا و غيرهم. و كان لأثر هذه الإصلاحات أن تولد المجتمع الرأسمالي الغربي المعاصر كما بين هذا الارتباط بين الإصلاح و المجتمع الجديد ماكس قيبر في مؤلفه "الأخلاقيات البروتستانتية و روح لرأسمالية."[2]       
     وقد دخلت الصحافة إلى المنطقة العربية و الإسلامية و هي (أي المنطقة)  في حالة ضعف أو "انحطاط" تاريخيا و حضاريا، ومن ثم كان التعامل مع هذه الوسيلة ظاهرة أملتها ظروف خارجية.  وتأثر دخول الصحافة "بمفهومها المعاصر" إلى المنطقة العربية بعوامل عدة منها أن الخلافة العثمانية كانت في مراحلها الأولى تخشى[3] دخول "المطبعة" إلى المنطقة. فقد دخلت المطبعة الخلافة العثمانية حوالي   1761 في عهد السلطان أحمد الثالث،[4] أي بعد حوالي ثلاثة قرون من ظهورها بأوروبا[5].  فالخوف من المطبعة كان إلى حد مقدمة الخوف من الصحافة و المكتوب عامة. ثم دخلت المنطقة في فترة الاستعمار الذي عمد إلى تضييق الخناق على الصحافة التي يمكن أن تحمل بعض العداء للاستعمار. و الحاصل أن الصحافة التي خرجت من دائر الخوف و قبضة الإدارة الاستعمارية كانت تلك التي ظهرت في أوساط المهاجرين بالمهجر أو تلك التي كانت سرية بالداخل. فعلى سبيل المثال ظهرت صحيفة الأمة (باللغتين العربية و الفرنسية) التي أصدرها حزب الشعب الجزائري سنة 1930 في أوساط المهاجرين الجزائريين بفرنسا وكانت توزع سرا في الجزائر، وكانت هذه الصحيفة التي تظهر أحيانا و تختفي أحيانا أخرى من أولى الصحف المنادية بالمقاومة و الاستقلال. أما الصحف التي كانت تصدر بموافقة الإدارة الاستعمارية فتجنبت الخوض المباشر في قضية الاستعمار ذاته خوفا من مصادرتها أو توقيفها كما حدث في حال العديد من الصحف التي حاولت ذلك.  و تميزت الصحافة بعد الاستقلال في المنطقة العربية بالخطاب السياسي القائم على ترويج سياسيات الدولة الناشئة في شتى المجالات مع الاعتماد على آليات الرقابة التي تميز الأنظمة السلطوية. ورغم أن الإعلام التنموي كان يحمل الكثير من الآمال في إشراك المجتمع في العملية التنموية إلا أن الرقابة الرسمية حولت الإعلام إلى أداة في خدمة سياسيات الدولة و الدعاية لها بشتى الوسائل. وساهمت أيديولوجية الرقابة هذه في بناء الخوف في كل من الصحافة و المجتمع.[6]                 

آلية الاستبداد الذاتي

     يعتبر الخوف المفرط نوع من الاستبداد الذي يمارسه الفرد على نفسه و يشكل ذلك جزءا من مكونات الفرد الذاتية والتي تنعكس على شخصيته وكيانه. و يسمى ذلك في الأدبيات الإعلامية بالرقابة الذاتية. وقد يصاحب هذا الإحساس صراعات ووساوس داخلية متعددة. و يترتب عن ذلك تأثر ما يتلقاه الجمهور بما يجول في خاطر الكاتب حال صياغة الموضوع وبنائه. وقد سمى لوين هذه الصيرورة بحارس البوابة (gatekeeper) ، هذا الموقع الحساس  الذي يتحكم فيما ينتقل إلى الجمهور من قضايا و معلومات. فالرقابة الذاتية في هذه الحالة نتاج الخوف و مصدره في نفس الوقت.  

آليات المراقبة الاجتماعية في غرفة الأخبار


      تستخدم الصحافة كثيرا كآلية توليد للخوف. فالصحافة وثيقة الصلة بالسياسية بل هي أداة سياسية مميزة في الأنظمة السلطوية. وكما قال جفرسون[7] "لو خيرت بين حكومة بدون صحف أو صحف بدون حكومة لاخترت الأخيرة دون أدنى تردد." وإذا كان النظام السياسي يعتمد على التخويف ، فإن الصحافة تكون الوسيلة الأمثل في نقل  الخوف إلى أوساط العوام. وقد عبر الكواكبي عن ذلك بالقول أن "العوام هم قوت المستبد وقوته، بهم عليهم يصول وبهم على غيرهم يطول."  و يترتب على هذا التأثير أن يحدث في أوساط العامة الولاء "غير المشروط" و تقديس الحاكم وإبطال دور الفرد في المشاركة في الحياة السياسية و الاجتماعية و الثقافية.  وقد أظهرت عدد من الدراسات الخاصة بالمراقبة الاجتماعية[8] أن المؤسسة الإعلامية تتضمن آليات مباشرة و أخرى غير مباشرة في تحقيق "الضبط الاجتماعي" وجعل الصحفي يؤدي مهامه وفق سياسية الصحيفة و توقعاتها بكيفية تصبح التغطية الإعلامية و السياسية من المسلمات التي لا تخضع للشك و التأويل.        
     يمكن تصنيف "الخوف" الذي قد ينتاب الصحفي في أداء مهامه عامة إلى الخوف من (تعود إلى الوضع) و الخوف على (تحسب على الصحفي ذاته):
       ·     الخوف من "الرقيب" سواء أكانت وزارة أو حكومة أو شرطة أو قضاء، الخ. وهذا الخوف ليس في المساءلة بقدر ما يخص "الاعتباط" أو "التعسف"  بحكم أن هذه المؤسسات ليست محكومة دائما  بسلطة القانون و إنما بسلطة القوة. فقد يكون القانون قائما إلا أنه لا يحكم الواقع.  وبالمقارنة مع حال الصحفي في المجتمعات الغربية، فإن الصحفي في المنطقة العربية يعمل في جو "مجهول" تكون في الآليات القانونية " التي تحميه"  غير قائمة أو معطلة جزئيا  أو انتقائية مما يفقد الصحفي ذلك السند أو "الترسانة" القانونية التي تجعل عمله في منأى عن هاجس الخوف.
       ·     الخوف من القوانين العقابية المتعددة كقوانين النشر و قوانين الإعلام و التي تسرد بالتفصيل ما يترتب عن التجاوزات من غرامات أو سجن. ولعل هذا الأمر ما حدى بالذين كتبوا الدستور الأمريكي أن يحتاطوا و يضعوا بندا أصبح يعرف بالمادة الأولى المعدلة في الدستور  (First Amendment) من أن الكونغرس لا يمكن أن يسن قوانين تحد من حرية الصحافة. وما تزال هذه المادة محل اعتزاز و حماية للصحافة الأمريكية حتى وإن كان الواقع لا يعزز ذلك دائما.
       ·     الخوف من "تحيز القانون ذاته،" ذلك أن المؤسسة القضائية قلما تكون مستقلة في المنطقة العربية. فالخوف الذي ينتاب الصحفي قد ينتاب المؤسسة القضائية (إن كان لها بعض الاستقلالية) فيشترك الطرفان في الخوف الذي يؤدي إلى إصدار أحكام تبدو في شكلها قانونية بينما تعكس في مضمونها حالة مرضية .
           ·       الخوف من "المسؤول المباشر": وعامة، فإن المؤسسة الإعلامية مؤسسة بيروقراطية معقدة يحكمها سلم الهرم الإداري إذ يكون كل "موظف" تحت وصاية أو "إشراف" من هو أعلى منه في المرتبة الوظيفية كأن يكون المحرر تحت إشراف رئيس القسم الذي يكون بدوره تحت إشراف مدير تحرير وهكذا. والحاصل أن العلاقة بين الصحفي والمسؤول المباشر تحكمه اعتبارات خاصة بالمجال الصحفي الذي يحدث فيه الكثير من الحراك و التجاذب والتفاوض و النزاع.
       ·     الخوف من الجمهور والمحيط الخارجي عامة: فرغم أن "الجمهور" ليس هما كبيرا في أذهان معظم وسائل الإعلام العربية، إلا أن نمو المجتمع المدني و التنظيمات غير الحكومية والمؤسسات الخاصة التي تسعى إلى تحقيق  مكانتها و بناء صورتها وسمعتها أو الحفاظ عليها بالإضافة إلى تطور الوعي الثقافي يشكل ضغطا على "الاسترخاء"  الذي قد يميز العمل الإعلامي في المنطقة العربية.   
       ·     الخوف من "انعدام التضامن" في أوساط الصحفيين الحرفيين أنفسهم، ذلك أن جل الجمعيات الصحفية تفتقر إلى الاستقلالية وكثيرا ما تكون أداء شكلية حساسة للجو الرسمي السائد.  
       ·     الخوف على الوظيفة ذاتها، فالصحفي قد لا يمتلك بدائل كثيرة على النحو الذي قد يحدث في المجتمعات الغربية، فقد تتحول وظيفته إلى "سجن صغير" لا بد منه. فالأمن الوظيفي محدود و تتحكم فيه اعتبارات ذاتية أو مصلحية وليس الكفاءة بالضرورة. وإذا كانت الوظائف و الترقية تقوم على مبدأ  الأحقية (meritocracy)  في المؤسسات الغربية عامة فإنها كثيرا ما تقوم على مبدأ الرداءة (mediocrity)  وعلاقات الولاء وغيرها في المنطقة العربية. 
           ·       الخوف على "ضياع" الامتيازات، كالترقية و السفر و تكوين العلاقات، مما يؤثر على الطريقة التي يغطي بها الصحفي الأحداث.                  
    إن هذه الأنواع من الخوف نظرية من حيث أنها قد تصاحب الصحفي تارة أو أحيانا أو تشكل هاجسا مستمرا إلا أن هذه الحالة قد تتطور إلى وضع يتجنب فيه الصحفي كل من يؤدي إلى الخوف فيختفي الخوف في دائرته الضيقة فيتحول الأمر من حالة مرضية يكثر فيها الخوف إلى أخري يضعف أو "يعدم" فيها الخوف. وقد أظهرت العديد من الدراسات الخاصة بالرضا الوظيفي في المؤسسات الإعلامية أن ذلك يكون محدودا عامة.




[1] John Stward Mill, On Liberty
[2] Max Weber, Protestant Ethics and the Spirit of Capitalism,
[3] فقد اعتبر البعض آنذاك أن المطبعة من عمل الشيطان.
[4] Sait Maden, Turkish Graphic Arts, in
http://sanat.bilkent.edu.tr/interactive.m2.org/Graphic/maden.html
[5] وظهر المطبعة في مصر مع حملة نابليون سنة 1798 وفي الجزائر مع الحملة الفرنسية على الجزائر سنة 1830.
[6] لا شك أن ظهور الصحافة و الفضائيات المستقلة قلل من سلطة الخوف هذه.
[7] طوماس جفرسون، الرئيس الثالث لأمريكا  1801-1809.
[8] Azzi Abderrahmane, Social Control in the Newsroom: A Case Study, Master Thesis, North Texas State University, 1982.   

جديد قسم : press

إرسال تعليق