تجليات الخوف في الصحافة:
بتاء الخوف وانكسار البنية القيمية في الصحافة العربية
د.
عبد الرحمن عزي
قسم الاتصال
الجماهيري
جامعة الإمارات
يتناول هذا الموضوع بعض العوامل التاريخية والمؤثرات الاجتماعية
الحاضرة التي أسهمت في تأسيس بنية الخوف في الصحافة العربية. وتشمل هذه البنية آلية
الاستبداد الذاتي والمراقبة الاجتماعية في غرفة الأخبار وأشكال الخوف في الأداء أو
الإلغاء في الممارسة الإعلامية. وسواء أكان الخوف أو "التخويف" مقصودا
على حد نظرية شومسكي أو من نتاج الحياة المعاصرة على حد نظرية فرودي، و بغض النظر
ما إذا كان داخليا أو تمليه الظروف الخارجية،
فإن الأثر أن ينتقل جو الخوف إلى الجمهور المتلقي إلا ما ندر فيعطل ذلك
إمكانيات المجتمع وقدراته على الفعل و
الإبداع . أما المخرج (بفتح الميم) فيكمن في نظرنا في إعادة تأسيس البنية القيمية و
الواقع المعايش و إبراز التقاليد الصحفية
الرائدة وإن قلت، و في حدها الأدنى تبدأ هذه البنية في إعادة تشكيل مواثيق الشرف
الصحفية و ترسيخ مباديء حقوق الممارس الإعلامي و مسؤولياته وحق المواطن في الإعلام
"النير" وربط كل ذلك بالمنظومة القانونية ذلك أن الصحافة تدخل في فضاء "المجال العام" و مصلحة الأمة وليس "المجال الخاص" الذي تمليه
الاعتبارات الذاتية و الظرفية الأخرى .
مقدمة نظرية
يعتبر
"الخوف" ظاهرة مبنية في الحياة ذاتها مثل الحالات أو المشاعر النفسية
الاجتماعية المتعددة كالقلق و التوتر والاحباط والجرأة و الحماس والشجاعة الخ.،
ولكل من هذه السمات معنى وحالة خاصة يميزها. و الخوف انفعال من جملة العناصر
الأخرى التي تشكل مزاج الإنسان و تحكم نفسيته.
ويمكن مقاربة "الخوف" بنيويا (بالاستناد إلى التضاد الثنائي binary
opposition) فيما يقابله أي
"الأمن." فالخوف يصبح في هذه الحالة ما يربك الأمن بمفهومه الواسع كالأمن الذاتي و الاجتماعي " الذي أطعمهم
من جوع وآمنهم من خوف."[1]
ويمكن أن يأتي في الجانب الآخر من الخوف "الرجاء" كما يرد ذلك في كتب التراث. ويقابل الخوف في الأدبيات
الإعلامية "الحرية،" فالخوف في هذه الحالة يشل "حرية" الصحافة
في التعامل الإيجابي مع قضايا المجتمع. وأحيانا يكون الخوف رد فعل لحالة غير شعورية
أو آثار تحيز ذو طبيعة ابستمولوجية
تاريخية مثل حال العقلية الغربية التي أحيانا
"لا تعرف الإثبات إلا من خلال النفي،"[2] فينتج
هذا العقل خطابا إعلاميا يبنى الخوف و الخصومة في الآخر ويعمل على "شيطنة
العدو." و بمعنى آخر، يصبح الآخر وعاء لكل ما يخافه بوصف ذلك مصدر تهديد على
مستويات شتى.
و الخوف
مسألة تبدو نفسية فحسب إلا أنها تشمل أبعادا ثقافية و اجتماعية وتاريخية و أخرى
إعلامية، وهو إذا ظاهرة متعددة الأبعاد.
فالخوف نفسيا
ظاهرة فطرية، أي يمكن
القول مجازا أن الإنسان خائف بطبعه، وفي ذلك حكمة، فإذا أحسن الفرد توظيفه قاده إلى الأمن (أو الأمان) و إلا تحول به الأمر إلى حالة مرضية. وبمعنى آخر فالخوف طبع منقوص، أي مذموم في ذاته، ولكنه ضروري متى كان توظيفه باعتدال. و قد دقق الأقدمون من العلماء في هذه الصفة ورتبوها
إلى أنواع ومنازل.
فقد عرف أحمد
المقدسي الخوف أنه " "تألم القلب و احتراقه بسبب توقع مكروه في
الاستقبال،"[3] و اعتبره
"سوط الله تعالى يسوق به عباده إلى المواظبة على العلم و العمل." وذكر
أن آثار الخوف قمع الشهوات واستكانة القلب وتأدب الجوارح ومفارقة الكبر و الحقد و
الحسد. و قد أورد في الخوف عدة مستويات . فقد صنف الخوف إلى خوف إفراط و خوف اعتدال
و خوف قصور. فالخوف المفرط "مذموم"
يقود إلى اليأس و القنوط و يمنع من العمل وقد يخرج إلى الوله و الموت. و الخوف
المعتدل "محمود" يفضي إلى المقصود المراد منه و يؤدي إلى "الحذر و
الورع و التقوى و المجاهدة و الفكر و الذكر و التعبد و سائر الأسباب التي توصل إلى
الله تعالى." و الخوف القاصر ضعيف
النفع قليل الجدوى وهو أشبه "بالقضيب الضعيف الذي يضرب به دابة قوية فلا
يؤلمها ألما مبرحا، فلا يسوقها إلى المقصد و لا يصلح لرياضتها وهذا هو الغالب على
الناس كلهم إلا العارفون و العلماء."[4]
و اعتبر
المقدسي أن الخوف من الله وخشيته أعلى منزلة في الخوف. قال تعالى "ولمن خاف
مقام ربه جنتان."[5]
وقال "رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشي
ربه."[6]
وجاء عن الرسول (صلعم) "إذا اقشعر جلد العبد من مخافة الله عز وجل تحاتت عنه
ذنوبه، كما يتحات عن الشجرة اليابسة ورقها."[7] وفي حديث آخر "لن يغضب الله على من كان
فيه مخافة."[8] وفي حديث
في نفس المعنى "عينان لا تمسهما النار أبدا: عين بكت من خشية الله، و عين
باتت تحرس في سبيل الله."[9] و بين المقدسي أيضا أن أخوف الناس أعرفهم بنفسه
و ربه. قال تعالى "إنما يخشى الله من عباده العلماء."[10] وفي حديث الرسول (صلعم) أيضا "أنا أعرفكم
بالله، وأشدكم له خشية."[11] كما فصل المقدسي في مقامات الخائفين و ذكر
"ومنهم من يغلب عليه خوف الاستدراج بالنعم، أو خوف الميل إلى عن الاستقامة،
ومنهم من يغلب عليه خوف سوء الخاتمة."[12]
و قد ذهب
الأقدمون أبعد من وصف "الخوف" ذاته ورأوا بأن حياة الفرد توازن بين
الخوف و الرجاء، و ينطبق ذلك على العبادات و المعاملات. و بينوا في ذلك أن الجامع
بين الخوف و الرجاء محبة الله تعالى، وشبهوا هذه العملية بالطائر الذي يكون رأسه
المحبة و جناحاه الخوف و الرجاء. فالخوف من الله في هذه المنظور يحول الأنواع
الأخرى من الخوف إلى ظواهر نسبية لا تعلو عن خوف الله أو تماثله.
و الخوف سمة
من سمات الأنبياء و العلماء و الصالحين. فقد ورد ذكر الخوف مرارا في القرآن الكريم
عن سيدنا موسى عليه السلام ولعل ذلك ما جعله يؤدي رسالة النبوة باستحقاق. فلما قتل
قبطيا "فأصبح في المدينة خائفا يترقب، "[13] ولما
علم بتآمر الملأ عليه "فخرج منها خائفا يترقب،"[14] ولما
قضى الأجل و آنس بجانب الطور و سمع النداء انتابه الخوف أيضا "وأن ألق عصاك
فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبرا ولم يعقب يا موسى أقبل و لا تخف إنك من
الآمنين."[15] ولما هم
بالذهاب إلى فرعون "قال رب إني قتلت منهم نفسا فأخاف أن يقتلون،" [16]
ولما طلب صحبة أخيه هارون قال "فأرسله معي ردءا يصدقني إني أخاف أن
يكذبون،"[17] ولما
ألقي عصاه فإذا هي حية تسعى "قال خذها و لا تخف، "[18]
ولما أمره الله تعالى بالذهاب مع أخيه إلى فرعون "قالا ربنا إننا نخاف أن
يفرط علينا أو يطغى. قال لا تخافا إنني معكما أسمع و أرى."[19] و
لما ألقى السحرة حبالهم "فأوجس في نفسه خيفة موسى. قلنا لا تخف إنك أنت
الأعلى،"[20] وهكذا. فالخوف
من خشية الله إذا قيمة يتصف بها أولياء الله من عباده المخلصين.
وعامة، فقد اعتبر الأقدمون أن الخوف
"سنة" إلهية تنعكس على الفرد بالإيجاب متى كانت عنصرا في توازن الفرد و
استقامته. فإذا كان الخوف بمقداره أو "باعتدال" كان ذلك من طبيعة
الأشياء، إلا أن الخوف يتحول إلى حالة مرضية فيصبح أداء تعطيل أو تدمير على مستوي
الفرد و الأمة على حد سواء .
و قد صنف
علماء النفس المحدثين الخوف الزائد عن حده بالمرض النفسي وسموه "بالفوبيا"
(phobia) و مرده الشحنات السلبية المستقرة في لا شعور
الفرد بفعل تجارب مؤلمة سابقة مع الخوف. و قد ذكروا عددا واسعا من أصناف الفوبيا
التي نمت و تفرعت مع تطور المجتمع المعاصر و من ذلك الخوف من العلو (acrophobia) ، الخوف من المساحات المفتوحة (agoraphobia) ، الخوف من الرعد و البرق (brontophobia) ، الخوف من الفشل (atychiphobia) الخوف من البحر (thalassophobia)
الخوف من التغيير (metathesiophobia) الخوف من الأجانب (xenophobia) ، الخوف من الإسلام (islamophobia) و الخوف من التكنولوجيا (technophia) و القائمة
طولية.[21] ويمكن إضافة الخوف من الصحافة إن لم يأت ذكرها
بعد فأمكن تسميتها في هذه الحالة ب (pressphobia)
أو (mediaphobia) .
و الخوف المرضي يتحول إلى ظاهرة ثقافية إذا
ولد المجتمع "مألوفات و محظورات" تخويفية" تتدخل في تنشئة ثقافة الفرد، فتترك هذه التنشئة
بصمات على الأفراد بغض النظر عن الفروق الذاتية. و الحاصل أن بعض الثقافات و
لضعفها "تبالغ" في ترسيخ الخوف و تنسج عالما من الأساطير و الوقائع عن
"الوحوش" و "الخوارق" التي تنمي "ثقافة الخوف" و
تحول دون التعبير و الإبداع في شتى مجالات الحياة.
و الخوف أيضا
علاقات اجتماعية، و قد يتسرب الخوف إلى الخطاب اليومي بين أفراد المجتمع فيصبح
ظاهرة اجتماعية. و يمكن أن نلمس هذا المشهد جزئيا في المنطقة العربية بشدة
الحساسية تجاه موضوع "السياسة،" فتبدو السياسة فضاء مملوءا بالمخاطر رغم
أن السياسة جزءا من الحياة . فمن وجهة نظر معينة،
يمكن أن تكون السياسة حياة و الحياة سياسة إن صح هذا التعبير.
و يتدخل التاريخ
في نقل الموروث بما في ذلك الخوف، وذلك إما في شكل تجارب سلبية في شكل ممارسات
تسلطية أو انهزامات و انكسارات.
و يتدخل الخوف في الصحافة في أكثر من محور.
فأحيانا تكون أداء تحويل الخوف، و أحيانا تعلب دور التنشئة الاجتماعية للخوف عندما
يتعلق الجمهور بهذا النوع من المحتوي، وفي أوقات تكون مصدر الخوف داخليا و في
العلاقة مع المحيط الخارجي. و تتفاعل الصحافة بدورها مع "الجو" الثقافي
و الاجتماعي و التاريخي المرتبط بالخوف إما إيجابا عندا تسعى إلى تجاوزه أو سلبا عندما
تعززه.
http://ww.balagh.com/,pspa/garb/Li0m0u4l.htm
[6] البينة، 8
[7] أحمد، 309.
[8] ن،م،س.
[9] ن،م،س.
[21] انظر مثلا
The
Phobia List, in http://www.phobialist.com

تعليقات: 0
إرسال تعليق