-->
العلمانية والإسلام

العلمانية والدين هي في جوهرها هي قضية العقل والنقل (الوحي) , والذي أؤمن به أنّ الخلاف بين العقل والوحي هو خلاف مفتعل , فدعاة العلمانية الغربية سخّروا العقل لشرعنة الرأسمالية الجشعة , أمّا حملة الوحي أو أنصاره فقد سخروه لشرعنة الفرعونية ......
جوهر العلمانية أنّها تدّعي أنّ الإنسان قادر بعقله لاكتشاف النظام الصحيح الذي ينظّم سلوكه في الحياة , ويحقق له السعادة والاستقرار , والعقل عندهم يسير على ضوء السلوك الطبيعي للإنسان الناتج عن دوافعه الفطرية من حاجات عضوية وغرائز , وهي عند هذه النقطة تقف أمام طريقين:

الأول: السير مع ما تطلبه الفطرة الإنسانية بدون قيد وشرط , وهذا طريق يؤدي إلى التأسيس لحياة بهيمية يسير فيها الإنسان سيرا غريزيا كما تسير مملكة الحيوان , ولاشك أنّ هذا الطريق يخدم الأيدلوجية الرأسمالية التي تصوغ الحياة بطريقة حياة الغاب , أو أحياء البحر.
الطريق الثاني: مراعاة الفطرة الإنسانية وعدم إنكارها , بل واعتبارها حاجة أساسية لا يجوز إغفالها , ولكن يجب تنظيمها , وضبطها , وفق قواعد الخير والشرّ التي اتفق عليها عقلاء الإنسانية في كلّ عصر ومصر , والتي تعدّ من القواسم المشتركة بين جميع بني الإنسان , وهذا الطريق يلتقي مع الوحي غالبا في تحديد الحسن والقبيح , والمسموح والممنوع وحتى لو أختلف معه في الغاية النهائية المتعلقة بالنظرة لما بعد الحياة.
وعليه فإن كان دعاة العلمانية العرب من أصحاب الطريق الثاني قلنا لهم:" تعالوا إلى كلمة سواء " , وسنجد أننا نلتقي معهم بنفس الطريق شريطة ألاّ نقدّم إلاّ صحيح الوحي , وشريطة ألا يقدموا إلاّ العقل السليم , أمّا إن كانوا من أصحاب الطريق الأول فهم مجرد كهنوت للرأسمالية لا يختلف عن الكهنوت الديني الذي يضفي الشرعية على الفرعونية.
أمّا اختلاف الأذواق والميول نتيجة للمفاهيم عن الحياة فهي لن تكون عقبة؛ لأنّ العلمانيين الحقيقيين (أهل العقل) من أصحاب الطريق الثاني لا تختلف مفاهيمهم عن مفاهيم أهل الوحي من حيث النتائج الدنيوية بغضّ النظر عن الغاية المرتبطة بما بعد الحياة؟؟
وبيان ذلك أنّ السلوك الإنساني الذي هو في واقعه إشباع للطاقة الحيوية الإنسانية (غرائز وحاجات عضوية) محكوم بقاعدتي النفع والضرر, وهذه في غالبيتها محسوسة ملموسة النتائج في الدنيا , وإن كان المتدين يلتزم بها طمعا بالثواب علاوة على ما تحققه له من نفع دنيوي.
ولو نظرت إلى أمهات القضايا التي يظهر فيها الخلاف بين العلمانيين وأهل الوحي أو الإسلام تحديدا مثل قضايا المرأة , والعلاقات الجنسية , والحرية الشخصية ,والنظرة الفردية للإنسان , فإنّك تجد كثيرا من مفكري الغرب لا يقرّون ذلك التطرّف الذي يلبس لباس العلمانية ,ويبينون بدراسات علمية محكمة خطأ النظرة الغربية لهذه الأمور , ويبرهنون أنّها ستؤدي إلى دمار مجتمعاتهم .....
ثمّ انظر إلى بدايات الدعوة الإسلامية وموقف العقلاء منها , وتقييمهم لها , ومن ذلك ما جاء في دلائل البيهقي: قَالَ مَفْرُوقٌ: وَإِلَامَ تَدْعُونَا يَا أَخَا قُرَيْشٍ؟؟ قَالَ: فَتَلَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ........... فَقَالَ مَفْرُوقُ بْنُ عَمْرٍو: دَعَوْتَ وَاللهِ يَا أَخَا قُرَيْشٍ إِلَى مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَمَحَاسِنِ الْأَعْمَالِ، وَلَقَدْ أَفِكَ قَوْمٌ كَذَّبُوكَ وَظَاهَرُوا عَلَيْكَ.)) انتهى , وشواهد ذلك موجود في السيرة النبوية بكثرة ومنها ما جاء عن عكرمة بن عمرو بن هشام المخزومي: ((فقال عكرمة: فإلامَ تدعو يا محمد؟ قال: «أدعوك إلى أن تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، وأن تقيم الصلاة وتؤتي الزكاة، وتفعل وتفعل» حتى عد خصال الإسلام، فقال عكرمة: والله ما دعوت إلا إلى الحق وأمر حسن جميل)) انتهى.
فاين هذا من النهج المتطرّف الذي يقول أغلق عقلك وبصرك وصر مستسلما لأنّ الله لن يرضى عنك إلاّ إن كنت هكذا ........ وهذا النهج الذي فرض على الأمّة خلافا لنهج كبار فقهائها القدامى الذين تجدهم يستدلون على الأحكام بالمنقول والمعقول , فهل نتهمهم بأنّهم كانوا دعاة علمانيين!!!
وإن كنت في شك من ذلك فتصفّح كتاب بدائع الصنائع علاء الدين، لأبي بكر بن مسعود بن أحمد الكاساني الحنفي (المتوفى: 587هـ) , أنظر كم مرّة جعل المعقول دليلا على الأحكام ..... وهو يستدل بذلك مظهرا الانسجام بين المعقول والمنقول ....
وعليه فإنّ المطلوب من دعاة العلمانية أن يحددوا موقفهم من الطريق الذي أختاروه هل هو طريق العلم والعقل أم طريق الكهنوت الرأسمالي , فإن أختاروا الأول لن يجدوا في الإسلام إلاّ ما يسرهم , وإن اختاروا الثاني فهم زائلون بزوال الرأسمالية المحتضرة.
وصدق والله البوصيري وصدقت بصيرته حيث قال:
لم يمتَحِنَّا بما تَعيَا العقولُ به ..... حِرصَاً علينا فلم نرتَبْ ولم نَهِمِ.
ولذلك أستطيع القول إذا تحرر العقل من الأهواء وتحرر الشرع من مثلها , ونجت الفطرة من الملوثات , فإنّها ستسير جميعا في طريق واحد ينتهي إلى ما يرضي الله , ويحقق سعادة عباده .....


جديد قسم : فلاح اديهم المسلم

إرسال تعليق