-->
لوحه نادرة للرسام العالمي المستشرق ادولف شيرير


الــصــبــر
الصبر: مشتق من صبر اذا حبس ومنع, وهو حبس النفس عن الجزع وحملها على مايقتضيه الشرع والعقل, وحبس اللسان عن التشكي والتسخظ, والجوارح عن لطم الخدود وشق الجيوب ونحوها. وانواع الصبر ثلاثة: صبر على ماامر الله به, وصبر عما نها الله عنه, وصبر على ماقدره الله من المصائب, وفي الذكر الحكيم {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} (1) , وفي سورة الزمر يقول الحق جل وعلى {قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (2) والصبر من الفضائل الخُلقية الذي تعود الإنسان السكينة والاطمئنان، وتكون بلسماً لجراحه، ودواءً لمرضه وبلائه، فالصابر يتلقى المكاره بالقبول فيحبس نفسه عن السخط فيتحلى بالسكينة والوقار، والصبر سبب لحصول الضياء في القلب، والهدوء في الطبع، لأن الصابر يعلم أن حبس النفس في الطاعة، وحبسها عن المعصية شجاعة، فالصابر يرى في الشدة حكمه فعليه أن يتلقاها بالرضا ليظفر بالثواب والأجر، والجاهل يضجر ويحزن ويكتئب، ولولا الصبر لانهار الإنسان من البلاء الذي ينزل عليه، ولأصبح عاجزاً عن السير في ركب الحياة على النحو الذي يحبه الله، وقد عني القران بالصبر ومدحه، ورفع قدره وأعلى منزلته، وأثنى على المتحلين به ثناء لا مزيد عليه، وذكره في القران نحو سبعين مرة مما يدل على عظم أمره وعلو شأنه، فهو أساس لكثير من الفضائل بل هو أمها، لأنه يربي ملكات الخير في النفس.
وقد قال بعض العلماء: "الشجاعة هي الصبر على مكاره الجهاد، والعفاف هو الصبر على الشهوات، والحلم هو الصبر على المثيرات، والكتمان هو الصبر على إذاعة الأسرار". (3)
والصابرون مؤيدون بمعونة الله، وصاحب الصبر مهتدٍ مستضيء بنور الله, وفي الحديث النبوي الشريف: (وَالصَّبْرُ ضِيَاءٌ) (4) ، والصبر خير كله، ومن يتصبر يصبره الله، ومن يتحمل المكاره والمصائب يعنه الله ويساعده، وفي الحديث النبوي أن رسول صلى الله عليه وآله وسلم قال: (وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنْ الصَّبْرِ) (5) ، وما رزق الله أحداً خيراً من الصبر، والصابر يحبه الله ويكرمه ويثيبه ويقدمه، كما قال جل شأنه {وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} (6) ، والصبر عزيمة ورشد، وثبات ونجاح، وفي الذكر الحكيم {قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ} (7) ، وقال علي بن أبي طاب رضي الله عنه: (عليكم بالصبر، فانه لا إيمان لمن لا صبر له) ، وقد قيل الكمال في ثلاث الثبات في الدين، وإصلاح المال، والصبر على النوائب.
الصبر مفتاح النجاح
الصبر مفتاح النجاح، وسبب الفلاح، وقديماً قيل: من علامة حسن النية الصبر على الرزية، ويرحم الله علي بن الجهم حيث يقول:
سهِّل على نفسك الأمورا ... وكن على مرها صبورا
وان ألمَّت صروف دهر ... فاستعن الواحد القديرا
فكم رأينا أخا هموم ... أعقب من بعدها سرورا
ورب عسر أتى بيسر ... فصار معسوره يسيرا

ويقول الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه:
إِصبِر قَليلاً فَبَعدَ العُسرِ تَيسيرُ ... وَكُلُّ أَمرٍ لَهُ وَقتٌ وَتَدبيرُ
وَلِلمُهَيمِنِ في حالاتِنا نَظَرٌ ... وَفَوقَ تَقديرِنا لِلّهِ تَقديرُ
وإذا كان المؤمن يعلم أن الله مصدر كل خير، وهو أولى بعرفان الجميل، وهو الذي يعين على الصبر، ويثيب عليه صبر صبراً جميلا، وليعقوب عليه السلام في الصبر الجميل مخاطباً أولاده الذي سولت لهم أنفسهم إلقاء يوسف عليه السلام في غيابة الجب ما حكاه الله في التنزيل {وَجَآؤُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} (8) .
وقد أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وآله وسلم أن يصبر، وان يهجر أهل الأذى هجرا جميلا أولئك الذين كانوا يقلون الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، ولا يقابل إساءتهم بمثلها بل يعفو عنهم فقال جل شأنه: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً} (9) . قال الشاعر:
صبراً جميلاً على ما ناب من حدث ... والصبر ينفع أحياناً إذا صبروا
الصبر أفضل شيء تستعين به ... على الزمان إذا ما مسك الضرر

وقد قال الإمام علي رضي الله عنه:
أَلا فَاصبِر عَلى الحَدَثِ الجَليلِ ... وَداوِ جَواكَ بِالصَبرِ الجَميلِ
وَلا تَجزَع وَإِن أُعسِرتَ يَوماً ... فَقَد أَيسَرَت في الزَمَنِ الطَّويلِ
وَلا تَيأَس فَإِنَّ اليَأسَ كُفرٌ ... لَعَلَّ اللَهَ يَغني مِن قَليلِ
وَلا تَظُننْ بِرَبِّكَ غَيرَ خَيرٍ ... فَإِنَّ اللَهَ أَولى بِالجَميلِ
وَإِنَّ العُسرَ يَتبَعُهُ يَسارٌ ... وَقَولُ اللَهِ أَصدَقُ كُلَّ قيلِ
فَلَو أَنَّ العُقولَ تَجُرُّ رِزقاً ... لَكانَ الرِزقُ عِندَ ذَوي العُقولِ
وَكَم مِن مُؤمِنٍ قَد جاعَ يَوماً ... سَيُروى مِن رَحيقٍ سَلسَبيلِ

وفي الأمثال السائرة: "الصبر مفتاح الفرج" (10) ، وقيل: إن العاقل يتعزى فيما ينزل به من مكروه بأمرين: الأول: بما يبقى له من الأجر، والأخر: رجآء الفرج، والجاهل يجزع فيما ينزل به لأمرين: خوف الشماتة, وضيق الحال، ويخاف التقي لما ينزل به بأمرين: الأول منهما: في مصيبته استكبارُهُ ما أتى به، والأخر: خوف ما هو اشد منه (11) ، ولهذا فان التقي لا يكون إلا صابرا، وقديم قيل: صبرك عن محام الله أيسر من صبرك على عذاب الله، وفي الأمثال السائرة: صبر ساعة أطول للراحة (12) ، ويقال لا تلقى العاقل إلا نافياً للهم عن قلبه بأحد أمرين منها: إن كان لما آتى من مكروه مدفعا فاحتال له بعقل، وان لم يكن لما أتاه مدفع كان الحيلة فيه الصبر، وقد نسب إلى بعض الرهبان انه قال: من احتمل المحنه وصبر رضي بتدبير الله وشكر، كشف الله له عن منفعتها حتى يقف على المستور عنه من مصلحتها (13) ، وقيل للمحن أوقات ولأوقاتها غايات، قال علي بن الجهم:
هِيَ النَفسُ ما حَمَّلتَها تَتَحَمَّلُ ...وَلِلدَّهرِ أَيّامٌ تَجورُ وَتَعدِلُ
وَعاقِبَةُ الصَبرِ الجَميلِ جَميلَةٌ ...وَأَفضَلُ أَخلاقِ الرِجالِ التَفَضُّلُ
وَلا عارَ أَن زالَت عَن الحُرِّ نِعمَةٌ ... وَلكِنَّ عاراً أَن يَزولَ التَجَمُّلُ

ويرحم الله عبد الله بن ثابت حيث يقول:
الصبر من كرم الطبيعة ... والمن مفسدة الصنيعة
والحر امنع جانباً ... من ذروة الجبل المنيعة (14)

__________
(1) - سورة البقرة آية (45) .
(2) - سورة الزمر آية (10) .
(3) - روح الدين الإسلامي تأليف العلامة عفيف عبد الفتاح طباره، ص (214) , الطبعة (27) 1988م، دار العلم للملايين بيروت لبنان.
(4) - رواه مسلم في صحيحه باب فضل الوضوء حديث (223) .
(5) - رواه البخاري في صحيحه باب الاستعفاف عن مسألة حديث (1400) .
(6) - سورة آل عمران (146) .
(7) - سورة الزمر (10) .
(8) - سورة يوسف (18) .
أعلى النموذج
(9) - سورة المزمل (10) .
(10) - مجمع الأمثال للميداني ص (418) .
(11) - انس المسجون وراحة المحزون ص (52) .
(12) - مجمع الأمثال للميداني ص (418) .
(13) - انس المسجون وراحة المحزون ص (51) .
(14) - عبد الله بن ثابت المقري سكن ببغداد ومات بالرملة سنه 1308هـ , وانظر تاريخ بغداد جز (9) ص (426) .



جديد قسم : Stories

إرسال تعليق