قبل عامين أو أكثر، وبعد إصرار من قبل شخص عامل في مفوضية الاتحاد الأوروبي في الأردن، شاركت في اجتماع عقده ممثلون عن المفوضية وعن عدد من السفارات الأوروبية في الأردن، وبمشاركة ممثلين عن حركات كنت أسمع بها للمرة الأولى. تبين لي لاحقاً أن ذلك الشخص كان مصمماً على حضوري حتى "أكشف الطابق"، إذ اتضح أن اللقاء كان يهدف إلى دراسة توسيع التمويل الأوروبي ليشمل المنظمات والهيئات غير المسجلة رسمياً، وهو ما يخرج عن المألوف الأوروبي، وقد تم تبريره بأنه محاولة لدعم الحركات الشبابية.

المفارقة أن اللقاء لم يكن به مجموعات شبابية، ولكن حركات مثل "أمي أردنية وجنسيتها حق لي"، ومجموعات إعلامية ذات توجهات غير مألوفة. الكل تقريباً كان يتسابق لتبرير الموافقة على الفكرة. يومها أوصلت رسالة واضحة وفظّة مفادها أن أي تمويل غير مسجل رسمياً ولا تشرف عليه الدولة هو تمويل مشبوه ومرفوض، ويسبب الضرر لكل من الاتحاد الأوروبي وللجهة التي تتلقى التمويل.

وتعطلت الفكرة، في حينه على الأقل. منذ ذلك الاجتماع تأكد لي أن مسألة أبناء الأردنيات تأخذ أبعاداً تمويلية وسياسية تمتد لما هو وراء الحدود. 
ومنذ تلك اللحظة تأكد لي أن موقف الحركة الوطنية الأردنية برفض تجنيس أبناء الأردنيات هو موقف سليم رغم كل ما يقال ضده. 
ولكن للمسألة برمتها زوايا مختلفة ينبغي مناقشتها بهدوء. شخصياً فوجئت برفض الكثير من الوطنيين الأردنيين لمنح أبناء الأردنيات حقوقاً معيشية غير سياسية، رغم أن التيارات الوطنية أعلنت غير مرة رفضها التجنيس تحديداً، وتبنيها مطلب الحقوق المعيشية.
ربما يكون التوقيت مريباً، حيث يتوازى مع مساعي كيري، ولكن هل يلغي ذلك عدالة مطلب أن يعيش أبناء الأردنيات عيشة كريمة؟ بصراحة لا أرى أي ربط بين مخاوف التوطين والوطن البديل من ناحية، وأن يتمكن ابن أردنية من الذهاب إلى المستوصف والمستشفى من ناحية ثانية.

الحديث يجري عن حوالي نصف مليون ابن أردنية، محرومون من أساسيات الحياة، حيث غالبيتهم يتحدرون من آباء محدودي الدخل، ما يعني أنهم يعانون من كلفة التعليم في المدارس، وكلفة الطبابة، وكل الكلف الحياتية الأخرى. مسألة منح الجوازات المؤقتة ينبغي التمهل عندها فهي خطوة نحو التجنيس، وينبغي إقفال باب تجنيس هؤلاء الأبناء إلى أن ينتهي السبب الذي لأجله نرفض ذلك، وهو مخاوف التهجير والتوطين.

ولكن في هذه الأثناء لا ينبغي أن ننسى أننا نتحدث عن أطفال ولدوا على تراب الأردن، وأمهاتهم أردنيات لا شك في أردنيتهن، قانونياً وأخلاقياً. وهو ما يعني أننا نتحمل مسؤولية أي تضييق معيشي يواجهونه. الوطنية الأردنية حازمة في مواجهة مخاطر تذويب الهوية الأردنية، ولكنها لا ينبغي أبداً أن تنزلق إلى شبهات التشدد والتطرف.

من ناحية المطالبين بمنح الجنسية لأبناء الأردنيات ما زالت الكثير من المسائل تستحق الوقوف عندها، من بينها مثلاً تركيزهم المبالغ فيه على القضية. يتذرع بعضهم بمبررات حقوقية وإنسانية عامة. 

ولكن هناك بالتأكيد حقوق ومبادئ إنسانية أكثر أولية وأساسية من حق منح الجنسية يتم انتهاكها، من بينها حق تقرير المصير للشعوب والذي تضمنه الأمم المتحدة، وهو حق يتم المساس به في الأردن على أكثر من صعيد، ومنها بالذات مسألة التجنيس الواسع والجماعي. 

كذلك ومن وجهة نظر مموليهم في أوروبا وأمريكا وكندا، هناك حقوق الحيوانات وحقوق المثليين ومبادئ التنمية المستدامة والبيئة وغيرها، فلماذا التركيز فقط على حق التجنيس؟ هل تستطيع نفس هذه المجموعات أن تستكمل باقي المنظومة الحقوقية لمموليهم؟ 
هل يستطيعون الدفاع عن حقوق المثليين علناً على سبيل المثال، بحيث ينشئون حملة لتغيير التشريعات التي تمنع المثليين من ممارسة نشاطاتهم؟ تشديدهم على حقوق الفلسطينيين في الأردن يأتي في الوقت الذي يهملون فيه تماماً أي حديث واقعي عن حق العودة أو عن تشجيع بعض إمكانيات العودة المتاحة حالياً. بكل صراحة ودون مواربة، هناك من يتنطع للمسائل والمداخل القانونية التي تسمح بزيادة الفلسطينيين في الأردن، والتي تسمح بزيادة منح الجنسيات. 

نفس المجموعة التي تتحدث بحماس عن تجنيس أبناء الأردنيات تتحدث بحماس أيضاً عن رفض قوننة فك الارتباط، ليس فقط لإغلاق باب القول بعدم قانونية الجنسيات التي منحت بعد عام 88، ولكن أيضاً لترك الباب مفتوحاً للمزيد من التجنيس.

نفس هذه المجموعة تتحدث بحزن مبالغ فيه عن ضرورة استقبال فلسطينيي مخيم اليرموك في الأردن، وهي نفسها التي ترفع الصوت عالياً في وجه سحب الأرقام الوطنية من أشخاص ضيعوا عمداً حقهم في الإقامة في الضفة، وهي نفس المجموعة التي تتكهرب عند مناقشة مسألة البطاقات الصفراء والتي تخوّل مئات الآلاف أن يقيموا في الضفة الغربية، وهي نفس المجموعة التي تتحدث عن قانون الانتخاب على أساس الديموغرافيا.

هي نفس المجموعة المرتبطة بشخصيات عليا، والتي تسعى وباختصار إلى خداع الجمهور الفلسطيني واستدراج بعضه من أرضه ومن المهجر إلى الأردن، واستخدامه لتكوين ثقل ديموغرافي في الأردن يستفيد منه من هم وراء هذه المجموعة بالذات في السيطرة على البلد.

الحركة الوطنية حتى تكون في خانة الوطنية البنّاءة الإيجابية ينبغي أن توجه عداءها لهذه المجموعة ولمن يحميها داخل النظام، إضافة إلى عدائها المسلم به لقوى الفساد والشد العكسي، وعدائها الاستراتيجي للمشروع والكيان الصهيوني، ولا ينبغي أبداً ولو للحظة أن يتوجه العداء إلى الأردنيين من أصل فلسطيني، ولا إلى أبناء الأردنيات، ولا إلى الفلسطينيين.